تجسّد الأفكار الجميلة إما لذاتها وإما للمراد من ورائها، وكتابة فن الرواية في الأدب يروي عادة واقعا معاشا بأسماء وأمكنة وأزمنة مختلفة، مع الحفاظ على جوهر الموضوع، ورونق الفكرة، و“ميمونة” إحدى هذه الروايات النفيسة، المكتنزة فكرا ورشدا، إيمانا وإحسانا مخاطبة العقل والقلب معا، وملهمة للوصول إلى أجوبة لأعماق سؤال الأزمة وما يؤرق ذهن الإنسان الحيّ الفطن.

كلما هممت بقراءة رواية حاولت البحث أيضا في سياقها الذي وردت فيه، إذ أربط هذا بذاك، ولا أمرر سطرا ولا فقرة إلا وبحثت عن سبب ورودها بذلك المعنى، وتلك الدلالة، و“ميمونة” لم يكن الغرض من تأليفها للتسلية والاستعراض العضلي للألفاظ والعبارات بلاغة وأدبا، وإن حملت في طياتها أجمل التوظيف للألوان البلاغية واللطائف اللغوية الممتعة، وهذا طبع الكاتب القدير وإحسانه في مثل هذه الأعمال إضافة لتمرّسه مهارة إيصال الفكرة على عدة أطباق دسمة صحيّة.

“ميمونة” التي دخلت غياهب السجن ومرّت بالمدرسة اليوسفية وتخرّجت فيها بأروع وسام، فعاشت فيها جوا روحانيا راقيا، تجاوزت فيه كل ظروفها المادية الصعبة فيها، وهذه أيضا حياة الكبار والعظماء، ولنا في علماء ونوابغ في بحر التاريخ وحاليا أجمل أسوة فقد أبدعوا ورقوا بمستوى من حولهم بهذه السبيل وهذا المنهج النادر المتسامي فوق المألوف.

قصة “ميمونة” كما وصفها الكاتب في غلاف الرواية بـ “ملحمة فتاة تتحدى ظلم إسرائيل وتروي أروع درس في الرشد والإيمان” هي في الحقيقة قصة الإنسانية كلّها، وقصة كل ذي ضمير ينبض بالحياة، استوحاها الكاتب من الواقع ونسج عليها خيوط الرواية استيحاء لا بالتفاصيل، فأبدع في كل مراحلها، وجعل قارئها بتركيز وهدوء يندمج وينسجم في تسلسلها الممتع، لا يكاد يختم جزءا إلا وتطلّع وتملّكه فضول الاطلاع على الجزء الموالي، وهنا تكمن فعلا روعة الروايات.

فـ “ميمونة” تلك الفتاة الفلسطينية النابلسية التي سبقت أقرانها بأشواط في فهمها لما يدور حولها تصورا وتحليلا وحتى مواقفا، كانت لفترة محل اختبار ومعاينة من أعقد مراكز البحث الإسرائيلية، وهي التي أعيت الخبير العالم “زئيف” واختبرت صبره بعدما اعتقد أنه هو من سيفعل، حتى تيقن أن الخطر إن كان سيأتي فهو وارد لا محالة ممن على شاكلتها فهما وإدراكا.

وعن أطوار الرواية -باختصار شديد- فجاءت متراكمة مشوّقة، إذ تبدأ الفتاة بعزمها زيارة أخيها في المعتقل فيلقى عليها القبض بهتانا واتهاما بالباطل، فتعيش لحظات ساعة التفتيش الصعبة، لترتمي عليها الأسئلة المحيرة وتأسر عقلها، فتتعقّد بعدها الأمور أكثر إلى أن تعتبر مهددة لأمن إسرائيل!، وتكون محل بحث دقيق نفسي وذهني من فريق من العلماء في ظروف مغايرة تماما لظلمة السجن وقسوته، ولكنها تبقى ثابتة المبادئ والمدارك العليا، وتبدأ رحلة البحث في أسئلتها الوجودة بمراحلها الأربع في كل رويّة وأناة: أنا؟ خالقي؟ الإنسان؟ الشاطئ والبحر؟

من المعاني الجميلة التي وردت في الرواية أيضا “أن الشاطئ للصغار والبحر للكبار” وهي رسالة لكل من كان له نصف اطلاع ونصف رأي ونصف جهد فاكتفى بذلك وراح يبتغي مطلبا كبيرا دون مخاطرة ولا ركوب للموج وغوص للأعماق، إنما الفلاح والنجاح لـ “من طلّق الشاطئ وخاض عباب البحر مؤمنا بالنصر المبين”.

لكل قارئ لديه من الفهم ما يجعله يميز بشكل سليم أن يتفطن من أولى الصفحات أو الرواية موجهة له بالدرجة الأولى، فيقرأها على أنه “ميمونة”، ليتموقع في الظاهرة ويدركها تمام الإدراك، فيتحرك وفقها، ويتصرف على ضوئها، مستعينا بالله داعيا في كل موقف يقدم عليه بقوله: ّياربّ ساعدني وكن معي” مخلصا في الدعاء تمام الإخلاص، لتتدفق عليه الفتوحات الربانية من حيث لم ولا يحتسب.

“وعلى مكتبها الصغير؛ قضت الساعات الطوال، وهي تخطّ مذكّراتها، التي تحفظ تفاصيلها لحظة بلحظة، وساعة بساعة… ثم أودعتها ظرفا؛ وهي تؤمن أنه سيأتي يومٌ ما مَن يروي ملحمتها للعالمين، لا فخرا ورياء، لكن عبرة وذكرى، وحمداً وشكراً؛ ثم أغلقت الظرف بإحكام؛ وكتبت على وجهه، بخط جميل: هذه مذكرات ميمونة، وهي مذكِّرات كل فتاة، وكل شاب مسلم، مؤمن، راشد…

رسالتي في أمثال هذه الأعمال الراقية هي التركيز على الفكرة والمضمون، فإن وصلت المفاهيم سليمة صحيحة فقد تحقق الهدف، أما ورودها على شكل رواية أو فيلم أو مسرحية أو شريط وثائقي أو حتى نشيد فذاك من باب الزيادة في الخير وتنويع المخرجات ليصل النداء لأوسع شريحة، وأملي أن تتجسد “ميمونة” في ألوان أدبية ولغات عدة أخرى ليكون التأثير أشمل.

يبقى أن أشير إلى أن الرواية متوفرة لمشتركي خدمة “كتابك” من مؤسسة فييكوس بالجزائر، وكذا “دار الفكر” من سوريا، تأليف الدكتور محمد باباعمي حفظه الله ورعاه، وقد جاءت في 96 صفحة بتصميم جذاب ورائع، وستتوفر بإذن الله في معرض الكتاب الدولي بالجزائر والذي ينطلق بعد أيام قليلة إن شاء الله.