رغم مضي وقت طويل منذ آخر قراءة لهذا الكتاب الصغير حجما الغزير معنى، إلا أني لازلت أتمثل الوصايا والحكم التي وردت فيه إلى اليوم، في كل التحديات التي أجتازها، والمشاريع التي أقدم عليها، والمواقف التي أمر عليها، وهو يعتبر عندي من الكتب المرجعية التي رسمت لدي المعالم الكبرى وأهم المبادئ الأساسية التي تشكلت منها الفروع الأخرى في مجال الأعمال والاستثمار.

نتحدث عن كتاب أو رواية “أغنى رجل في بابل” تناول فيها المؤلف جورج سامويل كلاسون قواعد وحكم في طريقة اكتساب الثروة وتسييرها وحسن التصرف فيها، من خلال حقبة زمنية شهيرة في المخيال الإنساني هي حضارة بابل القديمة كأكثر المدن ثراء ورفاهية ورخاء في عصرها، باستعمال الفطرة البسيطة والقواعد الواقعية بعيدا عن التعقيد أو التعلق بالوهم والحظ وانتظار السماء التي تمطر ذهبا، بل بالجد والمثابرة باستمرار دون كلل ولا ملل.

أسلوبه القصصي الجميل وفضلا عما حمله من مواقف مباشرة وتوجيهات قد نراها بديهية في بعضها وغريبة أو غير منطقية في أحيان أخرى، إلا أنه يخفي وراء ذلك تفاصيل أهم وأشمل من المال والسعي نحو الثراء المادي، بأسلوب الحكمة والحوارات التي تجسدت فيه كأجمل طريقة لتمرير المفاهيم وتوصيل الأفكار بدلا من التلقين وصياغة القواعد الجاهزة.

تناول الكتاب قصص الثراء انطلاقا من الصفر، وأمثلة عن السقوط والعودة إلى ما دون الصفر بعد القمة، وقدم توجيهات عن الاقتراض والديون والتعامل مع الفرص التي تعرض في الاستثمار مميزا بين ماهو حقيقي وما هو مجرد وهم زائف، وروى في بعض حواراته عن التعامل مع الثروة في الشباب وفي الكبر، وعن الادخار ومهارة الخروج من الأزمات.

أمثال هذه الكتب هي عصارة تجارب تستهلك من أصحابها عمرا طويلا، وتكلفة مادية ثقيلة، يهدونها على طبق من ذهب للقارئ الفطن الذكي، وهنا تكون استفادته واستيعابه على قدر اهتمامه، وعلى مدى تطابق الحالة الذهنية التي يعيشها ذلك الوقت، وبعض الفائدة يأتي آجلا، يتجسد واقعا أمام المشكلات أو بعد اجتياز التحديات بشكل مباشر.

قد نجد في الجلوس للكبار، والإنصات إليهم، والاستماع إلى تجاربهم الصعبة طيلة السنين ما يعادل محتوى الكتاب أو أكثر، ومن أهدى لك تجربته فقد منح لك قطعة من جسده، وجزءا من ذاكرته، وشطرا من مسيرة حياته، يبقى الذكاء منك في استيعاب تلك الهبة والهدية الغالية.