المال قوام الأعمال، في عالم مليء بالصراعات والتحديات، شروط البقاء فيه واضحة غير أنها صعبة المراس، عالم تحكمه التكتلات، وتوجّهه قوى عديدة سياسية، اقتصادية، وإعلامية، وما أتناوله هنا هو هذا الأخير الذي يسمى أيضا بالسلطة الرابعة، حيث إن وقود هذه القوى كلها هو عقل الإنسان مدعّما بالمال.

لإنشاء مؤسسة إعلامية -كما نعلم- يجب توفر عدة أمور انطلاقا من الإطار البشري والمصدر المالي، إلا أن أهم نقطة هي الهيكلة الروحية فيها، لو سلّمنا بأن المؤسسة الإعلامية تؤسس بناء على قضية ورسالة واضحين، ووفق دوافع اجتماعية وفكرية بالدرجة الأولى، وما أفسد هذا المجال في عصرنا هو تلك المؤسسات الطفيلية التي هدفها ربحي من أول يوم، ونظرتها تجارية محضة كغاية راسخة لها انطلاقا.

الرسالة والقضية، هذين العنصرين الهامين جدا لتأسيس المشروع الإعلامي كما المدرسة التربوية، وسر نجاحهما يكمن في إيمان طاقمهما بالفكرة أولا، وبالقضية ثانيا، فالفكرة تكون بناء على الدافع والحاجة أما القضية هي المحفز الذي من شأنه أن يعتبر وقودا للبذل أكثر، ليجسد النجاح والعطاء باستمرار.

هذا الوصف يمكن إطلاقه بكل مثالية، وعلى شكل ما ينبغي أن يكون، لكن هل الواقع الذي نعيشه في غالب الوسط الإعلامي كذلك؟، حينما نعاين سقوط تلك المؤسسة بعدما كان أداؤها مميزا، أو انقلاب سياسة أخرى 180°، لا شك أن وراء الأمر قوة خفية تؤثر بشكل مباشر في سير الجريدة أو القناة أو غيرهما، وتلك القوة يمكن أن نفسّرها بحرص الحكومات على أن يكون الناطق باسمها وفق منهجها فيتكلم حينما تريد ويصمت حينما تشاء، غير أني أستثني هذا النوع من المؤسسات هنا، لأركز على المؤسسة الإعلامية الخاصة.

القوة التي أعني بها هي المال، فصاحب المال كلما علت نسبته وارتفعت في مداخيل المؤسسة الإعلامية كانت له العصا السحرية ليؤثر ويرفض ويلعب دور المستشار في الكثير من الأحيان، إن كان هذا المستشار من مجلس إدارة المؤسسة فلا ضير ولا حرج، لأنه يقوم بدوره وواجبه ويمارس حقه في المشاركة في صنع القرار، لكن إن كان هذا السيد أو تلك الجهة لا علاقة لها بمجلس الإدارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلا أنها كانت بتلك القوة لأنها صاحبة الإعلانات الإشهارية، وكلما كان عطاؤها سخيا كان قرارها نافذا ورأيها محقا.

واقعيا هذا حال الكثير من المؤسسات الإعلامية، إذ تنسلخ من الدفاع عن قضيتها، وتنساق وراء الإثارة والدعاية المغرضة، كما تنشر خبرا مهملا بصيغة المهم والحصري، وتخفي حدثا قيّما بحجة عدم توافقه وانسجامه مع المعلنين لديها، هذا الأمر منتشر فعلا وبصفة عالمية، فهل هي ظاهرة مرضية؟ إن كانت كذلك، كيف الخلاص منها؟

قبل يومين كنت أشاهد حصة “حوار مفتوح” على قناة الجزيرة للصحفي المتألق غسان بن جدو، الحصة بثت من الأدرن في إطار ملتقى الإعلاميين الشباب العرب، فكان هذا الإشكال جزءا هاما من الندوة، حيث اشتكى البعض سطوة المعلنين على الإعلام، وتساءل آخرون عن موقف الإعلامي نفسه من تغير أو تعارض توجه المؤسسة الإعلامية بإيعاز من معلنيها أو غيرهم، هل يبقى ويضحي بقضيته، ليحفظ قوت عياله؟ أم تكون التضحية الأمثل بالوظيفة للبحث عن وجهة أخرى أنسب وأفضل؟ هناك من ذهب إلى الحل الأول باعتبار مهنة الإعلام “أكل عيش” وهناك آخرون آثروا أن يكونوا أصحاب مبدإ وإن اضطروا إلى البقاء دون عمل في سبيل إيمانهم بقضية وفق رسالة وغاية.

لأي مدى يؤثر المعلن على سياسة الوسيلة الإعلامية؟ وكيف الخلاص من هذا التأثير؟ أليس من الأجدر به أن يعتبر نفسه مستفيدا من خدمة الإشهار مقابل ما يدفع وكفى؟ لماذا يذهب إلى أبعد من ذلك ويقحم نفسه في نشر ذلك الخبر وحذف ذاك؟ وتبني تلك القضية وإغفال تلك؟ ففي الحصة المذكورة سابقا كانت مشاركة أحد الإعلاميين بقصة وقعت له مع رئيس تحريره في الجريدة التي عمل أو يعمل فيها حيث قام هذا الشاب النشيط بإجراء تحقيق حول ظاهرة سلبية واجتهد في إيصال الفكرة وتوثيق الأدلة بالصور والحوارات مع المعنيين، إلى أن وصل إلى مديره ليوافق على مادته وتنشر، إذا به يرفض! بحجة أن التحقيق يمسّ من قريب أو بعيد أحد المعلنين لديهم، لذا أجهض المشروع في سبيل إرضاء صاحب الأعلان.

في وقت كان من المفروض أن تنحصر علاقة المعلنين مع مدير التسويق أو الدعاية والإعلان للمؤسسة الإعلامية وتتم المعاملات في ذلك الإطار نجدها تتعدى إلى رئيس التحرير، وفي وقت كان من الأصح أن تضع المؤسسة الإعلامية شروطا لمعلنيها لتقدم لهم خدماتها وفق سياساتها هي، نجد أن العكس تماما ما يقع، فترسل المؤسسة مندوبها ليستجدي رؤوس الأموال ويلح في الشركات ليعلنوا في جريدتهم ولو مقابل التنازل عن مبادئ وقضايا، ويقدموا لهم في سبيل المال كل التسهيلات، لذلك نرى ما نرى من مصائب في الإعلام حاليا، لتبقى المؤسسات المحترفة تعد على الأصابع فقط.

من المفارقات العجيبة أن جريدة من الجرائد الوطنية حينما تخسر صفقة إشهار مع أية شركة اقتصادية مشهورة تسلّط عليها صحفييها الهواة لينبشوا لها في هفواتها وفضائحها على زعمهم، لتتحول صفحة الإشهار عن تلك الشركة إلى تحقيق حصري يحمل بين ثناياه مصطلحات الفضيحة والاختلاس والاستيلاء والنهب والتزوير والتهريب ووو، هذا حالنا تقريبا، عندما صار الإعلام وسيلة للتربّح والعيش، مثله تماما مثل التعليم، فما إن تجد مؤسسة تربوية هدفها الأول تجاري لا تنتظر منها أن تربّي أولادك فضلا عن تعليمهم.

موضوع العلاقة بين الإعلام والمال لا يمكن حصره في بضعة أسطر، لكنني حاولت أن تكون مقدمة وفتح شهية لمن يمكنه البسط أكثر والتعمق في هذا الموضوع الشائك، كما لا أريد أن يفهم من كلامي أن المال أفسد الإعلام عامة، بل العكس فكما ذكر في المقدمة لا قوة دون عقل الإنسان ووفرة المال، بهما يمكن أن نحقّق الكثير إن حققنا الاستقلالية بينهما بشكل مفيد.