أسدل الستار عن المعرض الدولي السادس عشر للكتاب في الجزائر، وطويت معه صفحة أخرى من صفحاته، لبنان هذا العام كانت ضيف الشرف، ومصر عوضت غيابها في النسخة الماضية بحضور قوي لافت، مضى المعرض فقيل فيه ما قال، وكتب عنه من كتب، لكل منهم انطباعات وتصورات منها المسبقة ومنها المستجدة المتجددة.

في العام الماضي قمت بكتابة انطباعات ورؤى حول مستوى القراءة لدينا في الجزائر، وعن قضية الكر والفر مع الكتاب المصري، والتسمية الغريبة الدخيلة للمعرض، فكانت ذات سياق متشائم يدعو للشفقة والحيرة من واقع مزر مع خير رفيق في الأنام والزمان.

أعود هذه المرة متناولا جوانب تنظيمية في المعرض، مشيدا بما يمكن أن أشيد به، وناقدا لما عليّ نقده وتقييمه، في عدة نقاط أعدّدها دون حصر لأن الموضوع أقل من أن يحصر في بضعة أسطر، ولو أقيمت منافسة لكتابة شهاداتنا حول “سوق الخيمة الدولي للكتاب” لشاهدنا ما تصنعه الأقلام بكل إبداع وتميز، ولا أفضل من مثال لذلك ما جاد به الأستاذ القدير محمد الهادي الحسني في مقالته: “القيطون الرهيب”.

لماذا سوق؟ ولماذا خيمة؟ السوق من منطلق أن المعرض الذي ينبغي أن يكون لعرض آخر النتاج الفكري وأحدث التقنيات وما توصل له مجال التأليف كان سوقا أشبه بسوق الخضر والفواكه، أو الألبسة المستعملة فضلا عن الجديدة، هرج ومرج، إهانة في المداخل وسوء تسيير في الممرات والأجنحة، رجال أمن تغمر محياهم شرارات الغضب وتعلو ألسنتهم عبارات الزجر إلا من رحم ربي، يزأرون على كل وافد للمعرض أو هارب منه، الكتب فيه نوعان أما الثالث فنادر جدا أولها كتب التدعيم المدرسي الذي يملؤ الكثير من دور النشر التجارية بامتياز، أما الثاني فكتب قديمة أغلبها دينية تجترها المعارض كل مرة وقد سئمت القبوع في المخازن والصناديق، مع ما كان نادرا من كتب جديدة نفيسة.

أما عن تسمية الخيمة فالجواب عنها أن السيدة المكلفة بالإشراف على تنظيم هذا الحدث العلمي الاقتصادي الشعبي الوطني لدينا هي امرأة لم تجد ضالتها إلا في حشر رواد الكتاب داخل خيمة، بأمر منها أو بمن حولها لا يهم، المهم أنها اعتمدت الفكرة مرة أخرى بعدما اعتبرتها ناجحة نجاحا باهرا منقطع النظير سابقا، زيادة على ما ورد على لسان الصحف من خلافها الشخصي مع إدارة قصر المعارض بالصنوبر البحري، والله أعلم بمدى صحة أو خطأ هذا التفسير.

في حقيقة الأمر أني كنت مرتاحا لاختيار المركب الأولمبي محمد بوضياف كمكان للمعرض، نظرا لمساحته الواسعة والمساحات الخضراء المحيطة به، ولفسحته وتحمل مواقفه لسيارات أكثر، فتخيلته مهرجانا علميا بجدارة، مقارنة عما كان في قصر المعارض الذي لا تحس فيه براحة وروح مناسبة علمية، لأسباب عدة أغلبها يتعلق بالتنظيم السيء أو بالأحرى غياب مصطلح التنظيم.

لكن مع مرور أيام المعرض اكتشفت سوء تقديري للأمور، فالمعرض الذي حمل شعار “الكتاب يحرّر” هذا العام، جميل وأنيق من الخارج، خيم كبيرة بيضاء، ترفرف حولها الأعلام الوطنية وغيرها، بجانبها مرافق ترفيهية كالمطاعم وقاعة الصلاة الكبيرة مقارنة مع ما سبق، بجانبها مكان الوضوء ودروات المياه، ففي البداية كل المؤشرات تدل على تطور ملحوظ واستفادة مما سبق من الدروس.

في أول يوم وبعدما أعلن عن افتتاح المعرض في كل وسائل الإعلام تنقلت إليه رفقة من معي، دون استعداد مسبق إلا بطلب من صديق كان سيغادر الجزائر كما زارها أيضا في نفس اليوم، فعندما وصلنا وجدنا كل الطرق مفتوحة دون زحمة سير فاستبشرنا خيرا مع توجسنا خيفة من أمر مفاجئ، لأن العادة لم تجر هكذا فيما مضى، المهم أننا لما وصلنا قابلنا رجل أمن بحاجز حديدي يقول: المعرض ليس اليوم عودوا غدا! هكذا بكل بساطة، فاليوم الأول للوزيرة وضيفها، وبعدها لعامة الناس مثلي! كظمت غيظي على أوقاتي الضائعة وما أكثرها في بلدي، وعدت راجعا من حيث أتيت.

في المرة الثانية دخلت المعرض ولكن هذه المرة كانت الطوابير طويلة، دخلنا فاكتشفت داخل خيمة لم يكن تماما كخارجها، إقبال كثيف يدل على اهتمام بالعلم من أهله وما أكثرهم في الجزائر، مع ما يشوب هؤلاء المهتمين من فئة غريبة لم أجد لها مكانة في عقلي إلا بصعوبة كبيرة جدا.

في مدخل المعرض تجد باعة الدخان وما يتبعها، وفي داخله تجد من يشتري كتبا ليعيد بيعها خارج الخيمة ناصحا إياك بعدم تكبد عناء اقتحام غمار الطوابير وجموع الناس الغفيرة، ومن الغريب أن وجودي هناك كان متزامنا لعملية بيع بالتوقيع لمؤلف كتب مذكراته حول حقبته الزمنية التي عاشها فتدافع الناس لاقتنائها فكان أكثرهم أولئك “البزناسية” حيث يشترون الكتاب موقعا من مؤلفه ويعيدون بيعه على بعد أمتار منه غير آبهين بمحتواه على خلاف ما يعتقد هو ومن ضيفوه!

دور النشر كذلك عانت من جانبها عناء شديدا من حيث حرارة الخيمة من جهة، ونقص المرافق والخدمات المتوفرة في معارض أخرى كدليل دور النشر المشاركة في المعرض مثلا، أو توفير قاعدة بيانات للبحث بعنوان الكتاب أو الناشر أو التخصص في موقع إلكتروني، وأبسط شيء يمكن أن يتوفر مثلا هي أكياس محترمة مطبوع فيها شعار المعرض وشارته، كمادة تسويقية بدائية لا تحتاج لتفكير طويل، توزع فيها دور النشر كتبها، لكنني وجدت أكياس البطاطا والقمامة لتستعمل في حمل كتابين على الأكثر لا ثالث لهما كونها لا تقوى على ذلك لجودتها!، مما اضطر من عانى من المشكل وفهم الدرس مما مضى أن يحضر معه أكياسا لشركات أو معارض أخرى غير “سوق الخيمة الدولي”!

فقد حدث أن طلبت من بائع كتب في دار نشر عربية أن يضع كتابي في كيس بعدما اقتنيته منه، إلا أنه رد معتذرا بعدم توفرها لديه، بل ما زاد الطين بلة، أنه أرسل غلاما ليشتري له باقة منها فذهب بالمال ولم يعد! ورغم كوني أجبته أن هذا الأمر يحصل في أي مكان آخر، إلأ أني داخليا تأسفت كثيرا وأنهيت معه الحوار منسحبا بلطف علّه يسرد لي مصائب أخرى.

يؤسفني أن يكون المعرض كذلك في أصله مفرنسا بالجملة، حاول القائمون عليه تعريب بعض منه ولو جزئيا، وهذا موضوع آخر لا مجال له هنا، كما يؤسف أن لا نجد فيه علماءنا ومفكرينا الجزائريين كشخصيات بارزة فيه تقيم ندوات علمية وفكرية وتنال احترامها الذي ينبغي لها، بينما يصرف المنظمون الغالي والنفيس لاستضافة كتّاب قليل منهم الكفء وأغلبهم المغمورون وأنصاف المؤلفين! هذا حال بلدي مع إهانة العلم لحد اللحظة، ومرة أخرى أجد نفسي متشائما رغما عني، آملا في غد مشرق أكثر تفاؤلا وأفضل حالا.

أختم بذكرى جميلة في المعرض وهي لقاء المدونين الودي، رغم أني لم أحضره شخصيا لارتباط آخر، إلا أني اطلعت على تفاصيل لقائهم من خلال ما كتب عنه، كما التقيت بعضا منهم في زيارة أخرى، ولعل من أهم أسباب لقائهم كتاب الصديق يوسف بعلوج حول الثورة التونسية “على جبينها ثورة وكتاب” الذي فرض نفسه فرضا في هذا المعرض، ولاقى تناولا ملحوظا في وسائل الإعلام، فقد قرأته ولمست فيه قدرات كبيرة يتمتع بها يوسف ستجعل منه كاتبا كبيرا إن شاء الله.