اقتناء الخضر والفواكه لم يكن عملية تجارية تقنية فحسب، وإنما هي تجربة اجتماعية لمن يدرك عمق المعاني ويفهم أسرارها.. وإن كان الأمر مختلفا بين الماضي والحاضر، وإن كانت العملية مختلفة بين القرية التي نشأت فيها وبين ما نشهده في المدن التي نزورها أو نعيش فيها مرحلة من الزمن.. إلا أن الكثير من المشتركات بينها تحيي فينا الذكريات بنكهة من الحنين والميل لكل ماهو طبيعي عفوي بسيط..
أعني بذلك أساسا تلك الأزقة الضيقة المكتنزة بضاعة عن يمين وشمال، أصوات الباعة وعباراتهم التسويقية الارتجالية الذكية، وطريقة ترتيب المحاصيل الزراعية الطازجة فوق صناديقها بشكل منضبط مرتب دون سابق تخطيط أو تنظير.. الأسعار معلنة مرنة تسري بين الطاولات بانسيابية مع تخفيضات وتنزيلات من حين لآخر يقترحه البائع ويقره الزبون وكذلك العكس..
أما ما نشهده من تطور وتنميق للمراكز التجارية العصرية وتلك الترتيبات المبالغة، والتصنيفات والتوجيهات واللافتات والألوان والشاشات والموازين الدقيقة التي تلفظ ملصقات السعر والوزن ما إن تضع فوقها كيس الفاكهة أو الخضرة دون تفاوض ولا حتى حوار.. السعر ثابت واضح والعملية روتينية جافة.. الجميع منهمك في اختيار مقتنياته يقارن الأسعار ويقلب الماركات ويراجع تواريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية، لا ابتسامات متناثرة ولا سؤال عن الحال.. طوابير كئيبة في صناديق الدفع سابقا.. والآن عم الصمت أكثر حين توفرت صناديق الدفع الآلية..
رغم كل هذا وذاك.. لازالت الأسواق التقليدية تشهد إقبالا وتنافسا واهتماما لا لأسعار منخفضة فيها فقط، بل لبعدها الإنساني، ولجوها التراحمي، ولسياقها الاجتماعي الخصب..
فالسوق في الأخير ليس مكبا للأموال مقابل بضاعة نحتاجها لنشبع بها جوع المعدة.. بل هو مكان للقاء والحوار والاطمئنان والمرور به وشهود حركيته وحيوية الناس فيه متعة يملأ بها الإنسان رصيده الروحي ويغذي به ويصون شبكة علاقاته الاجتماعية ولو عاد منه بقفة فارغة.. وقليلا ما يحدث..
أحن لـ “أغلاد أوسّاع” .. بكل تفاصيله..
صدقت الاسواق الشعبية تشع بحرارة العلاقات الانسانية، أما الاسواق الحديثة و التقنية فهي جافة مثل الآلة.