استكمالا ومواصلة للجزء الأول من هذه المقالة، سأتناول هذه المرة جزئية هامة في حياة الزوجين وبناء أسس حياتهما على الصحيح، وهذا من خلال احتكاكي ومعاينتي لجملة من الحالات من حولي مما وصلتني وتصلني أصداؤهم، وهو “الثقة”.

فكلنا يعلم إلى أي مدى يمكن أن تساهم الثقة التامة بين شخصين في ترابطهما وتعلقهما ببعضهما البعض، فما بالك بالزوجين؟ حقا للثقة سحر خاص في صفاء العلاقات وذوبان الجليد التي قد يتكون فيها من حين لآخر، وبقدر فقدانها يفقد الإنسان أي طعم لحياته.

أعتقد أنه لا يمكن الجزم بصدق سلوك الإنسان السوي النزيه الخلوق ظاهريا في بيئة محافظة تحتوي على أنظمة مراقبة عرفية وشرعية صارمة، إن كان ذاتيا أو جاء بناء على ظروفه الخارجية القاهرة لإرادته الخفية، وهذا حتى تنتفي تلك الظروف أو يتجاوزها لغيرها، فهناك يظهر معدنه جيدا، وتبدو شخصيته بشكل أدق، وتناولي لهذه القضية هنا يأتي في سياق الثقة بين الزوجين حينما يكونان معا، ولكن إذا توفرت لأحدهما عوامل أخرى تيسر له المغامرة بعيدا عن أعين شريكه فهل سيفعل ما يخرق علاقتهما أم أنه سيصمد ويلتزم باسم الحب الذي بينهما وعهد الشرف الذي قطعاه على نفسيهما؟

حديثي بشكل مباشر عن توفر الوسائل التقنية بشكل رهيب وتسرّبها عنوة لداخل أسوار الأسر، فسقط من سقط، وثبت من ثبت، وبين هؤلاء العديد ممن كاد أن ينزلق لولا عناية الله ولحظة رشد وسبب وقاية، فصار الناس حيارى حقيقة تجاه هذه الوسائل التي رسمت لهم في بداياتها جوا مثاليا بكونها هبة ميسرة لحياتهم فإذا بها تتطرف وتتمرد لتصير معاول هدم لأسر كانت إلى وقت قريب في منأى عن أي خطر.

المنع ليس حلّا، نعم هذا ما نسمعه ونتداوله كمبدأ من مبادئ التربية، وإنما وجب التوجيه والوضوح، فما من شخص غامض يخفي عن شريك حياته الأقرب إليه أشياء فهو حتما سيبحث عمّن يبوح بها له، فالإنسان إن كتم سرّه قتله أو هكذا يعتقد، لذا نجد الحاجة للبوح والإفشاء تقفز من نوافذ الغرف إلى نوافذ غرف مظلمة أخرى لا ترى فيها إلا شعاع ذلك الهاتف أو تلك اللوحة الذكية، ففي ظاهر الأمر صمت رهيب، ولكن العواطف تسري فيها لا سلكيا كبحر هائج يأتي على الأخضر واليابس.

للأسف هذا واقع الحال وليست لوحة أدبية أو منافسة لرصّ كلمات بعضها لا يمت بأية صلة لبعض، فكم من أزواج يشكون خيانة زوجاتهم وزوجات يشكين هجران أزواجهن وتصحرهم، والكل يبحث عن بديل له هناك وهناك، حتى صارت الأسماء اللطيفة في العوالم الافتراضية تجذب إليها من هبّ ودبّ، ومتى كان الاسم مجرّدا دليلا على أفضلية وجمال وخلق صاحبه أو صاحبته؟

“الثقة” بين الزوجين تستلزم منهما صراحة وصرامة في خدمة كل واحد منهما للآخر، والبحث بعناء وصدق وإخلاص عن كل ما يمكن أن يضفي لكليهما سعادة وقناعة ورضا، فالإهمال والتجاهل هما السمّان القاتلان لكل بادرة علاقة حب بين الزوجين، ومن فقد الاهتمام بحث عنه في غير موضعه، ولو كلّفه ذلك التفكير بعاطفته وتغييب عقله مما يعجل بتدمير حياته.

لكل إنسان طموحاته وآماله وآفاقه، فليسع كلا الزوجين إلى تقبل تطرفهما وربما حتى مغالاتهما ومبالغتهما في تبني الآراء على وسعها وبعدها، فإن فهم كل منهما حاجات الآخر، وأدركا ما يرضي طموحهما، وحددا سرعة مدارهما جاءت كل الخطوات بعد ذلك يسيرة بسيطة، فالحياة أعقد من أن نتجاهل آلامها بباقة ورد مرفقة بشعور بارد، ولكنها أجمل وأبسط من أن نبحث عن السعادة فيها في علياء السحاب وهي بيننا كأقرب ما تكون.

نصيحتي أن يطلب الإنسان الكمال في نفسه ليجده في غيره، وأن يولي اهتمامه بمن وهبه الله له بين يديه، ولا يجري خلف سراب زائف زائل… هي رسالة سيفلح من فهمها، وسيسقط في وحل الزمان من كابر وخان…