تشهد الجزائر مؤخرا أزمة اقتصادية بسبب انهيار أسعار البترول في السوق العالمية، وقد تضاربت الآراء والقرارات بين الدول المصدرة من جهة والمستهلكة من جهة مقابلة، مما أدى لتفسيرها إعلاميا بالنقمة على الجزائريين، إلا أن هناك من رأى فيها منحة طال انتظارها، وأملا جديدا للشباب الجزائري كي يتحول من مرحلة لأخرى، وينتقل من نمط تفكير لآخر.

منذ القديم والشعب الجزائري كغيره من الشعوب يشهد تحولات في نمط عيشه، وطرق تعامله مع التوجهات الاقتصادية العالمية، إذ يمكن القول إنه خاض -مرغما- الكثير من التجارب القاسية والصعبة، وكلما بدا له بصيص أمل، إلا ووجده مجرد سراب عابر، وهذا عائد بدرجة أساسية لسوء التسيير السياسي للظاهرة الاقتصادية، وعدم القدرة كل مرة على التكيف مع الأوضاع الجديدة وقيادة التحولات الطارئة والطبيعية في ظروف الحياة، فضلا عن التعامل مع المستجدات بردات الفعل بعيدا عن الاستشراف والتخطيط، حتى صار الانطباع البارز في زمن البحبوحة المالية الأخيرة -كما وصفت- بكونها بحبوحة على فئة معينة ولم تكن كذلك على الجميع.

يجرنا الحديث حينما نتناول مرحلة الوفرة المالية إلى طريقة التعامل معها سلبا بالاعتماد المطلق على استيراد السلع من خارج الجزائر مهما كان نوعها وصنفها وجودتها، مما أدى لتهديد الإنتاج المحلي وغلق الكثير من المصانع والورش وتحويلها إلى مخازن للسلع التي تستورد من الصين خصوصا، وكذا من تركيا وغيرها من بلدان العالم، ولم يكن ذلك يتطلب شروطا كبيرة، فقد تيسر الاستيراد على كل من يملك مالا كافيا سواء كان تاجرا أو مجرد فضولي همه الربح السريع ولو على حساب قيم التجارة ومصالح المستهلكين، وفي هذا جني لأرباح مادية معتبرة على المدى القصير، لكنه كان حقا رهن للكفاءات الإنتاجية وكسر لمبادرات التصنيع والإبداع.

في زمن الوفرة المالية تكرّس مفهوم المادية البحتة وصار حلم فئة معتبرة من الشباب الجزائري، فركز تفكيره في امتلاك السيارة الفارهة والبيت المريح فضلا عن الزواج المثالي، لكن دون بذل الجهود الكافية المؤدية لذلك، فعينه على الأموال المكدسة في خزينة الدولة، وهمه الحصول عليها بتكوين الملف تلو الملف ولو على حساب تكوينه العلمي والمهاراتي، حتى أفرزت هذه الذهنية جيلا من أشباه التجار ممن ورثوا الأموال ولم يرثوا آليات صناعة الثروة، فنشأ جيل عديم المهارة والكفاءة، إلا من رحم ربي.

حتى من كان في الأرياف نزح للمدينة طلبا لحياة بذخ مزعومة، فترك أرض أجداده التي كانوا يزرعونها وقام ببيعها لينضم لفئة مستوردي السلع من كل صنف ولون، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فلم يتأقلم مع ظروف المدينة، وقد نسي كيف كانت حياته في قريته وأصالته.

أمام هذه الظروف الصعبة جاءت التحولات الحالية لتعلن العودة للمصانع والورش المحلية، لكن كيف؟ وبأي مورد بشري؟ ألم تخرّج الجامعات آلاف الطلبة بشهادات عليا ولا تزال؟ الجواب أن سوق العمل لا تحتاج لكفاءات تقنية علمية تحفظ النصوص لتجمع بها نقاط الاختبار فتتفوق في أسرع وقت تفاديا للمزيد من المتاعب في الجامعة، إنما الحاجة لإنسان متكامل أخلاقيا ومهاراتيا ونفسيا وفكريا، إنسان يعرف وجهته ودوره، ويعيش دائما في أمل التحسين والتطوير والطموح ماديا ومعنويا.

نعم هناك بوادر وآمال لتجاوز المرحلة بأقل الأضرار، لكن واقع الأمر يخبر بضرورة بذل جهود مضاعفة على مستوى القيّم والمفاهيم والسلوك والعلاقة بين الشاب والعمل، وهذه مهمّة المدارس والجامعات والأسر ومعها كدور فعّال وسائل الإعلام بأصنافها، فعوض أن تركز جهودها في التخويف وبث اليأس في نفوس المواطنين بوصفها الأسود القاتم للواقع، عليها أن توجّه الشباب لما فيه مصلتهم ومصلحة الوطن ككل، وعليها أن تبدي وتبرز النماذج الناجحة من ذاتية المجتمع الجزائري، فالأمل قائم يحتاج للمزيد من التسويق والإشهار.

شباب الجزائر أمام محطة تاريخية وبحاجة لنقلة نوعية على مستوى الإدراك، فمرحلة الاستهلاك لأجل الاستهلاك قد ولت، وحان وقت الذاتية في الإنتاج، والتفكير بروح مبدعة واسعة الأفق، فإن كان مصير البلاد فيما سبق أن تبقى مستهلكة مستوردة، فقد حلّت مرحلة التصدير والتصنيع والتأثير وتجاوز الحدود، فالعالم قرية صغيرة، والجغرافيا لم تعد عائقا ولا حاجزا، وما تجربة الصّين وتركيا ببعيدة، فهل سيتصالح شباب الجزائر مع أرضهم ومواردهم وأنفسهم ويعلنوها مرحلة جديدة؟

المقالة منشورة في موقع ساسة بوست