بعد غياب طويل نوعا ما، ومع تذبذب وتيرة التدوين لظروف وأسباب كثيرة علّي أخصص لها تدوينة كاملة يوما ما سأعود هذه المرة بجملة مقالات تحمل في طياتها مواقف ومواضيع مختلفة كانت تصنع الحدث في يومياتي خلال الفترة السابقة، وكما وعدتكم في آخر تدوينة فستكون هذه التدوينة مواصلة للتي سبقتها إذ سأخصصها للعالم الكبير البروفيسور أحمد جبار وما استفدته منه في ندواته التي حضرتها بمناسبة تتويجه بوسام العالم الجزائري مؤخرا.

في البداية سأستعين بفقرة كتبتها في المقالة السابقة وبها أنطلق…

“أمّا المكرّم الثاني وهو البروفيسور “أحمد جبّار” فحقا تصدق فيه كل صفات العالِم الحضاري، وليس غريبا عليه ذلك إذا علمنا أنه قرّر أن يكون عالما متميّزا حينما كان في العام الخامس من دراسته، وقد أمضى منها ثلاثا يذهب للمدرسة متنشيا آملا وهو دون حذاء ينتعله، ولا محفظة تحفظ كتبه إلا كيسا بسيطا خاطته له والدته، وفي قصّة حياته عبر شيّقة أترككم للغوص فيها بالبحث عنها”.

تسمع عن الإنسان وتقرأ له فتصاب بنوع من الانبهار الذي يجذبك لمعرفة المزيد عنه، وعن البروفيسور أحمد جبار ففي الحقيقة لم يكن ممن قرأت لهم أو سمعت عنهم إلا بعدما تم ترشيحه لوسام العالم الجزائري، فتساءلت عن قيمته وقامته العلمية وفوق كل ذلك الأخلاقية الإنسانية، وحينما شاهدته أوجست منه خيفة بعدما علمت أنه كان وزيرا، والوزير في وطني ليس ممن نفخر ونعجب به عادة لكن…

بعدما تحدّث وحاضر صارت القناعات البالية تنهدم أمامي، والصورة الذهنية المتعلّقة بالوزير تتبدل كليا، فالرجل عميق في طروحاته حقا وليس مظهرا، ولقب البروفيسور لديه جاء عن جدارة لا مجاملة وتشريفا عابرا، والإنسان بعفويته تنكشف شخصيته، وبصدقه تتجلى جواهره.

فمع الكبار كان كبيرا متواضعا، ومع الصغار بدا صغيرا بريئا، الجميل فيه أنه يعرف العزف على كل الأوتار، فيسمع متابعيه أرقى النغمات هادفة عذبة، متبحرا في مختلف العلوم بمختلف اللغات، وهنا تكمن قوّته وخبرته.

من أهم ما أثار انتباهي وهو يسرد قصّة حياته استجابة لأسئلة منشّط الحفل ذلك الاسترسال في سرد التاريخ وبث الرسائل الإنسانية الهادفة، فإخلاصه لله عز وجل باد في كلامه دون تكلّف، وبرّه بوالديه واضح في حديثه دون إغفال واستصغار، ووفاؤه لمن علّموه ورافقوه ونصحوه لم ينساه أبدا حتى كانت مداخلاته دروسا في العلاقات الإنسانية لكل مستمع فطن يعرف كيف يلتقط الحكمة.

ماذا عن الجزائر؟ وماذا تمثّل للبروفيسور أحمد جبّار؟ جواب وجدته في إحدى إشاراته حينما تناول موضوع التربية وتشريف النفس والأسرة والوطن في كل مقام ومقال، فالرجل صال وجال العالم وفي كل مرّة يرفع علم الوطن عاليا بإنجازاته واكتشافاته دون ابتذال ولا إحجاف، فالإنسان الناجح كالشمس يضيء الجميع بأخلاقه وعلمه ووطنه من ضمن الجميع.

هذا دون إخفاء الصعوبات التي وجدها في سياق الوطن الصعب، فقد مرّ عليها سريعا ولم يعلّق عليها فشلا أو تقصيرا، بل قدم النصح بتفادي انتظار الفرج والمنح والفرص دون المبادرة لصنعها وتوفيرها، فالحياة هكذا ميدان اجتهاد ومرابطة ومصابرة ليغدو الإنسان كبيرا.

عودة للغات فالبروفيسور حقا مدرسة في هذا الموضوع، وقد تجاوز الكثير من الصعاب بملَكة تعدد اللغات لديه، واستفاد من هذا أن قرأ وألّف ودرّس في الكثير من الدول والمجتمعات وعاش معهم واكتشفهم بما فيهم عن قرب، وهكذا طالب العلم محبّ للاكتشاف مغامر لا يرضى بأنصاف القدرات والملَكات وإنما التمكّن والتعمّق منهجه دون تنازل.

حقيقة استفدت الكثير من البروفيسور أحمد جبار كإنسان، وكطالب علم، وكعالم، وكمواطن، وكمسؤول سياسي، وهذا رغم قصر الفرصة، ولكني عاهدت نفسي على البحث عن أمثال هذه الدرر والنهل من معينها قراءة وتتلمذا وتعلّما.

نقولها من أعماق قلوبنا…

نعم للجزائر علماؤها… Oui, l’Algérie a ses savants