تمر في حياتنا لحظات وأيام، تبقى راسخة في ذاكرتنا وتترك فينا شعورا جميلا ينمو مع مرور الوقت، ومن بين هذه الذكريات العذبة مرحلة الدراسة حينما كانت البراءة تشغل فينا حيزا كبيرا، فتصورنا للحياة كان مخالفا لما نحن عليه الآن تماما، ولعلّ كثرة الأسئلة المطروحة حينها تجعلها حقا متميزة خاصة وأن أغلبها قد وئد ودفن إما بالمقولة الشهيرة: “لما تكبر ستفهم” أو بأسلوب الإسكات والأمر بالتزام الصمت.

هي أيام مضت بحلوها ومرّها، كان فريق منا في المدرسة يتسابق فيها لنيل المراتب الأولى، فيما كان هناك من لا يرى في ذلك إلا نوعا من الخبل والبلادة، مع الحقيقة المؤسفة إلى أن المنحى العام في المدرسة والمدينة ككل حينها كان من النوع الثاني، ليبقى المجدون المجتهدون يشكّلون الاستثناء بتحفظ واحتشام، فلا يبقى لهم إلا أساتذتهم وأهلهم ربما يحفزونهم ويدفعونهم لبذل الأفضل، فيما يلاقون عنتا وسخرية كبيرين من أقرانهم ومن يكتشف اجتهادهم.

هذه الظاهرة كانت حقيقة مما يحيرني فأتساءل: لماذا؟ ومن المسؤول عن تفشي أمثال هذه القناعات؟، ومن المستفيد منها؟، حتى صار التلميذ المجتهد في نظر أقرانه كائنا غريبا لم يتفطن بعد للحياة، ولم يدرك معناها جيدا، ولكن حتى في تعريف الاجتهاد كان علينا التأمل والتوقف مليّا، فما كنا نعتقده حينها كان مغايرا لما ينبغي أن يكون فعلا.

التلميذ المجتهد في نظرنا كان ذلك الذي يحسن الحفظ ويتلقى التلقين ويتأقلم مع نظام التعليم والمعلمة حينها ولو سلكا طريقا خاطئا مهترئا، فيما كان الطلبة الذين يشكلون الاستثناء بذكائهم وطريقة تفكيرهم المتفردة حينها يصنفون في خانة الغرباء بل حتى المرضى نفسيا! فمنهم من قاوم حتى نجح، ومنهم من توقف في وسط الطريق مفضّلا الانسحاب والانزواء.

كم من قصة عشتها وأخرى سمعت عنها من أصحابها الذين كانوا ضحايا لما اشتهر حينها بالعقاب النفسي بالتعريض أو التصريح أمام التلاميذ لا لشيء إلا لكونهم أبدعوا طريقة جديدة في حل واجب معين، أو سلكوا منهجا مخالفا لما هو مألوف ومرقون في المقرر المدرسي، فرغم احترامي لأساتذتي ومن علّموني منذ الصغر إلا أني أحتفظ بذكريات سيئة مخيبة مع بعضهم، مع ما تعني كلمة “بعض” من أن عددهم لم يكن يسيرا.

هذه التصرفات التي عشتها والتي عاشها غيري في نفس الفترة والتي سبقتها والتي تلتها كوّنت تراكما كبيرا في أوساط أجيال عديدة، بدت واضحة في أرض الواقع، فيما نجا فيها المتفرّدون المتميّزون بتفكيرهم السديد الغريب فيما يبدو، وليس بالضرورة من كانوا في دراستهم يحوزون أعلى المعدلات والرتب، أما من جمعهما معا فقد نال الحسنيين ووجد ضالته في حياته العملية وحقق التوازن المنشود أو قاربه في حياته عامة.

ففي لقاءات جمعتني بأصدقاء كنا قد درسنا معا في نفس القسم أو المدرسة كان الموضوع الأبرز والمشترك فيها يدور حول معايير نجاح الإنسان في حياته بعد إتمام مرحلة الدراسة الاعتيادية، وكيف أن فلانا كان يدرس معنا وكان دائما في عداد الراسبين الفاشلين -بمقياس النقاط المدرسية- هو الآن يشكّل نموذجا ناجحا نسبيا أفضل بكثير ممن كانوا يعتلون منابر الجوائز وينالون الرتب الأولى غالبا ودون منازع، فأين يكمن السر؟

ومن المفارقات العجيبة التي لا يمكن إغفالها أن العديد ممن كانوا يتصدرون أقسامهم بمراتبهم الرائدة انتهى بهم المطاف إلى رحلة البحث عن وظيفة تليق بمستوى تعليمهم الراقي فلم يجدوا غير شركة أسّسها من كان يدرس معهم في دور الطالب الفاشل الراسب على الدوام، وهي سنّة الله في الكون إذ خلق الإنسان مسخّرا في خدمة الإنسان، ولكل رزقه ومآله.

حاليا وحينما كتب الله لي عمرا وبلغت مرحلة رافقت فيها ابنتي للدراسة أعترف أن الوضع تحسّن كثيرا، فقد دخلت المناهج الحديثة فصول الدراسة، وتغيرت القناعات وصار التلميذ أفضل حالا، مع أني لست متأكدا أن الحال مثله في المحيط الذي درست فيه.

أملي أن يتفطن من بيدهم أمر التربية والتعليم إلى أن النجاح ليس رهين النقاط المدرسية العالية فقط، وليس من باب التعلّم للتوظيف فقط، ولكن بناء الإنسان الناجح يتطلب منظومة متكاملة تغذي القلب والعقل معا، وتلزم الأخلاق والتربية كمعيار أساسي قبل تكديس المعلومات، وسرد المعارف.

هي خاطرة مما حرّكته مناسبة الدخول المدرسي لدي، فأردت أن أفصح فيها ببعض ما كان يختلج في صدري ويتزاحم في ذهني كأسئلة لم أتوصّل إلى كل الأجوبة عنها، ورجائي أن يسهم في الموضوع من لديه الإضافة…