الإنسان قوام نجاح أي مشروع بالدرجة الأولى، ثم تليه عوامل أخرى مساعدة ومكملة لعملية الإبداع، فإن كانت الأجرة المادية تمثل أول سؤال غالبا لكل باحث عن وظيفة أو عمل، وأكبر هاجس فيما عهدنا، فإن اليوم بيئة العمل المريحة المناسبة لا تقل أهمية إن لم أقل إنها هي الأساس والضرورة.

توفير الجو المناسب للعمل وسيلة من أهم وسائل زيادة الإنتاجية، فالاحترام المتبادل وبيان المهام والمسؤوليات ووضوحها بين كل فريق العمل، وكذا اعتبار الموظف أو الشريك إنسانا قبل كل شيء، عوامل وجب توفيرها أو السعي لذلك في مشاريعنا ومؤسساتنا، إضافة للاعتناء بالمظهر وإضفاء المسحة الجمالية واللمسة الفنية لبيئة العمل التي نقضي فيها ساعات عملنا الطويلة، فالظروف المعنوية تسير جنبا إلى جنب مع المادية، والتوازن بينهما مطلوب لتحقيق أي نجاح.

وقد أصبح الاهتمام بظروف بيئة العمل وتطويرها وتحسينها باستمرار ميزة تنافسية بين الشركات في العالم، وتعتبر ذلك أهم معيار لتطورها وتقدمها والمحافظة على ولاء فريق العمل لديها، خاصة تلك التي تعتمد أساسا على عقل الإنسان وجهده الفكري والبدني، ساعية في ذلك لتوفير كل حاجياته البيولوجية والنفسية، من إضاءة وألوان ومرافق صحية وترفيهية مدروسة بدقة، ولا زالت الدراسات والنظريات تتوالي وتتدافع في هذا المجال.

ربما قد سار هناك تصور مسبق لدينا عن وجوب توفر الأموال الطائلة لنحظى ببيئات عمل مريحة منتجة، والأصل أن هذا التصور ليس صائبا كليا ولا خاطئا كذلك، إنما الإبداع ينطلق بأفكار بسيطة ثم بالتدريج يتم الوصول لمستوى أرقى من الراحة دون صرف الكثير، كل ما في الأمر هو الالتزام أولا بأدنى شروط النظافة وثانيا بحسن ترتيب الأشياء في مكانها، مع الاهتمام بكل زاوية من زوايا المكتب أو المتجر أو الورشة…إلخ

وفي هذا الإطار فإنه يمكن تقسيم العملية إلى ضروريات وكماليات، ولا يعقل أن نسعى للثانية ونحن لم نوفر الأولى ! بل علينا الالتزام بيننا بأمرين مهمين هما سر الانطلاق نحو بيئة عمل مناسبة محفزة على الإبداع، أولاها التخلص من المعوقات والشوائب المتراكمة من قبل، وثانيها تحديد خطط عمل قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، نهدف من ورائها إلى تحسيس الإنسان العامل فيها بكرامته وتحفيز آلته الإبداعية ليتحرر وينتج دون اصطدامه بما يخدش حاسة من حواسه.

لهذا يمكن أن نصوب مفهوما من المفاهيم المتجذرة في بيئاتنا، فنحن حينما نهتم ببيئة العمل في مشاريعنا ومؤسساتنا لا نقصد بذلك فقط نيل رضا الزبون وكسب ثقته لطلب الخدمة لدينا، فهذا موجود نعم ولا ينكر، إنما الأصل في القضية أننا نعني بها فريق العمل بالدرجة الأولى، فهو الذي يقضي الساعات الطوال في تلك البيئة، وهو رأس المال الذي ننتظر منه الفوائد ماديا ومعنويا.

الاهتمام ببيئة العمل تجعل الموظف يكوّن علاقة طيبة تتوطد يوما بعد يوم بينه وبين مكتبه أو ورشته، فلا يجد راحته إلا فيها، مما يسقط بذلك عامل الزمن واحترام أوقات العمل، ولعل من أطرف ما يتم تداوله في هذا الموضوع ما وقع لشركة غوغل (Google) حينما وقعت في صعوبات مع موظفيها لإقناعهم بمغادرة مكاتبهم آخر الدوام، وفضلت في الأخير الانصياع لرغباتهم امتثالا لمبدئها في توفير الراحة للموظف كخط أحمر.

شركات البرمجيات والتقنيات الحديثة أدخلت مفاهيم جديدة في موضوع بيئة العمل، وطورت عدة تطبيقات ميدانية فكانت بذلك مثالا للعديد من المؤسسات في مجالات كثيرة غيرها، ولعل الخطأ الذي يقع فيه البعض منا هو غلق باب الاستفادة من تجاربهم بسبب فارق حجم الاستثمارات والمجالات والتخصصات، بل فن الاهتمام ببيئة العمل لا تتعلق بتاتا بأي تخصص في عمومياتها، مع وجود ذلك في التفاصيل، والبحث والاطلاع كفيل بإنتاج نماذج أخرى خاصة بعيدة عن التقليد المطابق، فلا ندعو للتقليد وإنما للإبداع، والإبداع يأتي أساسا بالاستلهام من تجارب سابقة.

المؤسسات التي تتغير باستمرار وتفاجئ فريق عملها وحتى زبائنها بلمسات فنية خفيفة من حين لآخر على مستوى الديكور، تعطي انطباعا طيبا وتعزز ثقتها في قلوبهم، مع الإشارة لإمكانية الانعكاس السلبي إن كان العملية مملة ومتغيرة بكثرة كل مرة، فالحكمة مطلوبة هنا، وفوق ذلك الدراسة المستفيضة أولا، فاختيار الألوان المناسبة لطبيعة العمل والتخصص، وتوفير ضروريات الأمور كمقاعد مريحة للجلوس إن كانت هناك لحظات الانتظار مثلا، ووجود لافتات إرشادية لطيفة تعرف المرافق من جهة وتحدد صلاحية استعمالها من جهة أخرى.

الاعتناء بالمظهر الجمالي للمؤسسات مهم جدا، ولكن لا قيمة له أصلا إن لم يكن الجمال في الأخلاق والنفوس، وفي المعاملات والتصرفات، فكم من مؤسسة صرفت وقتا وجهدا ومالا في سبيل ظهورها بأجمل حلة، إلا أنها أخفقت إخفاقا ذريعا في تقديم صورتها الإنسانية على وجه طيب، فابتداء بالمعاملة السيئة المتعالية لموظفيها وتَصَوّرهم كآلات تصدر ضجيجا لتنتج شيئا ما، انتهاء باعتبار الزبون أوراقا مالية تسير على رجلين ليس إلا!

التأكيد ضروري هنا على تكامل عملية الاعتناء بالمظهر والمخفر معا، وهذا مبدأ على كل إنسان اعتباره والتزامه، كما المؤسسات أيضا، فالإنسان ليس آلة، إنما هو كائن مركب معقد جدا، مفاتيحه لا تتوفر بيسر إلا إذا لبينا حاجاته بتوازن وذكاء، فإنه حينها يصير منتجا بقوة، ليس لدافع أجرة مادية يتقاضاها فقط، إنما إفراغا لمكنوناته الإبداعية برغبة جامحة تسكنه، والأمثلة كثيرة حول كل منا لو تأملنا، فالعبرة بالمعنى دائما وأبدا.

تطور الزمن أفرز لنا تطورا في الذهنيات والأفكار كذلك، وتدافع العلوم فتح آفاق اكتشافات واسعة مترامية، ومن أهم شروط البقاء على قيد الحياة وظيفيا وعمليا مواكبة التغيرات، والتكيف وفق المستجدات، أما المحافظة على الصدارة فيستلزم جهودا مضاعفة مضنية، ولا أرى في هذا العصر أكبر من إيلاء الاهتمام لرأس المال الفكري البشري، الموضوع بحر من بحور العلم العميقة، ندعو الله التيسير لنغوص في أعماقه علنا نطفو للسطح بدرر وفوائد تسهم في عودة مشعل الاهتمام بالإنسان بعدما كان لفترة طويلة للمادة والشيء.