ما إن يحلّ علينا شهر نوفمبر حتى تتزين الجزائر بالأعلام، وترتفع أسهم الوطنية في الأسواق، وتنتشر مفاهيم الكفاح والنضال في الأوساط، هذا الحال الذي أتذكره منذ دخولي أول عام في المدرسة، وجاء اليوم الذي أخبرتنا فيه المعلّمة بعدم إحضار المحافظ غدا، لأن هناك حفلة في المدرسة.

الحفلة جميلة كوننا نستعد لها من أيام بحفظ الأناشيد الحماسية أو الاستعداد لتقديم عرض مسرحي يصوّر إحدى مشاهد أبطالنا الشهداء، فلم نعد ننسى بعد ذلك يوم 1 نوفمبر 1954 تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، وببراءتنا كنا متفائلين من وطننا ومن رجاله الذين يخدمونه ليل نهار، وقد التزموا ميثاق أول نوفمبر وعاهدوا أنفسهم وغيرهم بالامتثال بما جاء فيه، والعمل على تطبيقه آناء الليل وأطراف النهار.

مع هذا الشعور كل عام تضاءلت نسبة الحماس، فأصبح يوم الأول من نوفمبر خلال مرحلة التعليم المتوسط فرصة جميلة بإقامة المباراة النهائية في الكرة الطائرة داخل أسوار المدرسة، ثم نتبعها بمباراة في كرة القدم خارجها، هذا كل ما كنا نتمناه من ذلك اليوم، علما أننا نتأخر في الحضور للمدرسة فقط لنلحق آخر نشاط وهو المباراة متجاهلين فقرات الحفل الأخرى. فلم يعد شعور سنوات الابتدائية قويّا داخلنا، لا أدري لماذا لربما للمرحلة العمرية انعكاسات ساعدت على تلك التصرفات، فأين هو ترقّب يوم الحفل والتنافس على تقديم مختلف الأنشطة فيه.

أما المرحلة الثانوية ففيها بدأنا نفهم بعض معاني الحياة، وكيف أن مناسبة نوفمبر ما هي إلا بروتوكول خال من أي روح، يجدَّد فيها ذكر الشهداء وتمجيدهم، وتعاد تسمية مؤسسات بأسماء شهداء علما أنها نفس المؤسسات التي سمّيت بشهداء آخرين العام الماضي، جميل أن نرى تداول جملة من أسماء الشهداء على لافتة مؤسسة واحدة، والأجمل منه لو يمتد هذا التداول ليشمل مسؤوليات الأحياء قبل الأموات حيث قرّروا الموت بين أحضان منصب أو غيره.

نعم قام الشهداء بدور كبير جدا، لا يقدّر بثمن لتحرير بلادنا من شمالها إلى جنوبها، فلا ينكر هذا إلا غافل جاهل، لكن لنتصوّر لو قام أحدهم واكتشف ما آلت إليه دولته التي ناضل من أجلها حتما سيجدها كما جاء في الإلياذة: “جزائر يا مطلع المعجزات” ويرى فيما يرى…

  • يرى الجزائر الفرنسية التي كافح من أجل تحريرها، يراها تلهث وراء محتلّتها وتلحّ عليها وكأنها تتوب لتتقمّص دور أمها وتنظر إليها بعين الرضا والقبول، وزراء متعددو الجنسيات، أغلب كلامهم بلغة الأم، قراراتهم يستنبطونها من إحدى القنوات الفرنسية بتسلسل أرقامها (France1, France2…).
  • يرى شبابا همهم الهجرة للضفة الأخرى، متيقنين يقينا راسخا أنها الجنة، غير منكرين لشيء اسمه الجزائر، فعلاقتهم بالوطن والتراب جيدة، لكن المشكل فيمن يحكم ويسيّر ذلك الوطن!
  • يرى شعبا كسولا متّكلا متواكلا فقط على ما تقدّم الدولة، همّه الخبز والسكن، يمتلك الفيلا والأخرى وبفضّل كراءها والعيش في البيت القصديري لتقدّم له الدولة مسكنا آخر، عقله مشفّر مع اختلاف الأسباب والمسببات.
  • يرى المواطن الذي رفع جدّه السلاح لقتال العدو في جبال الأوراس وجرجرة يقاتل ابن بلده ويسرقه تارة “بالملاحة” وأخرى “بالقباحة”، لا يحسّ بالأمن في بيته ولا عمله، فلا أقصد هنا الإرهاب أو القاعدة في المغرب أو المشرق، بل الإجرام.
  • يرى دولة يتنافس حول تسييرها من همّه بطنه وفرجه، فيما الأمين والصالح والكفء يرتقون المناصب ويتلقون الضمانات والتحفيزات في بلاد عرفت قدر العلم وأهله، وعلمت أن الرجل الحقّ لا يقدّر بثمن.
  • يرى مواطنا يقضي ساعات ليظفر بتوقيع في البلدية في ورقة مفرنسة كليا، من مسؤول غائب يقضي مصالحه بالهاتف، ويتقاضى القهوة للقيام بمهامه.
  • يرى هتافات جديدة غير تلك التي اجتهد في نظمها الشاعر الفذ مفدي زكرياء وغيره من شعراء ومفكري الجزائر، ويسمع عوضا عنها: (1 2 3 Viva L’Algerie!)

جميل أن نركّز على ذكر أمجادنا ونعلي شأن أجدادنا، لكن حريّ بنا كل مرة أن نقيّم أنفسنا ونترك لأبنائنا وأحفادنا ما يمجّدوننا به غدا، فإن كان الشهداء قد بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله والوطن، فماذا جنت بلادنا من انتصارات في زمننا؟ لا أدعو إلى حرب ننتصر فيها، لكن مجالات التنافس حاليا تتعدى القتال العسكري إلى العلمي والثقافي، وإلا فلا نستغرب ألا يجد أبناءنا ما يذكروننا غدا سوى ملحمة أم درمان، وذكرى الفوز في معركة السودان ذات يوم، ويصفون زماننا بعهد الازدهار والقوّة الكرويّة وكأننا خلقنا لأجل هذا وفقط، ويمكن أن يربطوا شهر نوفمبر بأمجاد الجزائر كما كان أكتوبر شهرا للنكبات والكوارث، لكن شتانا بين نوفمبرهم ونوفمبرنا، ذاك شجاعة ومهارة وهذا لعب ولهو.

أعود لأصف ذكرى نوفمبر وأنا حاليا في مرحلة العمل، لأعبّر عنها أنها فرصة أمام مستوردي -وليس مصنعي فقط – الأعلام الوطنية لتحقيق أرباح مادية معتبرة بتوفير كميات كبيرة جدا تعلّق في كل مفترق طرق، مع سؤالي بمصير أعلام السنة الماضية وقبلها وقبلها… كما أن الذكرى فرصة لليتيمة لإطالة نشرة الأخبار والإتيان بشهادات مناضلين ومجاهدين حقيقيين وغير حقيقيين، يتضاعف عددهم كل عام بصفة غريبة وإعجازية، فالأصل لو وضعت وزارة المجاهدين رؤياها للمرحلة القادمة فسيكون الخبر محزنا بانقراضها، لذلك ربما تمتنع من ذلك!

في الأخير… المجد والخلود لشهدائنا الأبرار

البانر من تصميم للمبدع: سيف الدين بالمناسبة.