أولا علي أن أعترف أن هذا الموضوع كان سيخرج للحياة من مدة، لكني تراجعت كل مرة عن نشره لعدم اقتناعي به، ولأنني أكون متأثرا من موقف حقيقي بشأنه حين أود الخوض فيه، فكما ينصح ألا نقرّر في حالتين، حين الغضب وحين الفرح، فغالبا ما يكون القرار حينئذ مبنيا على العاطفة فقط.

تصادفني مواقف في حياتي اليومية أو الافتراضية -الأنترنت- تجعلني أقرّر الكتابة حولها، فأحتفظ بالفكرة ثم أحاول إثراءها بمرور الوقت، ومن جملة هذه المواقف، ردود أفعال البعض منا عندما تكون بصفة عفوية، غير أن تلك العفوية أحيانا تكون مغلّفة بسلبية كبيرة، حيث يغلب على أجوبتهم أو آرائهم حول موضوع معين طابع المحلية المفرطة، التي تضر بهم كأشخاص وتضر بانتمائهم وما يفتخرون به، ففي حسبانهم أنهم يحسنون صنعا، لكن ليتهم سكتوا وما نطقوا.

حاليا لم يصبح العالم تلك القارات والدول المنغلقة على نفسها، بل هو قرية مكشوفة المعالم، فلا يعقل مثلا أن نسمع أصوات في هذا القرن، وخلال هذه الأيام التي تشهد ثورات في التقنية وسهولة الوصول إلى المعلومة، لا يعقل أن نسمع من يمنع “تسريب” معلومات حول مدننا أو قرانا، بداعي الخصوصية؟ أي خصوصية هنا تتحدث عنها؟، بل لنسأل أنفسنا من جهة أخرى؟ أيهما أفضل، أن ننقل صورتنا بأيدينا؟ أم ننتظر – والوقت لا ينتظر – ليأتي غيري ممن يحبني وممن ليس كذلك لينقل ما شاء ويترك ماشاء؟ هي أمور تحدث من أدنى المستويات إلى أعلاها، فالجزائر الجميلة طبيعة وتراثا وتاريخا، هناك من صورها بأبشع الصور، وصدّر عنها أسوأ الذكريات، ولنقس على ذلك مدننا، وقرانا أيضا.

أعلم أن الفكرة مازالت غير واضحة تماما، فسأحاول التوضيح والتبسيط أكثر، مثلا عندما يحدث أي شيء في العالم حولنا، فيأخذه البعض منا بمفهوم المؤامرة ويصوّر لنفسه أنه هو أو أسرته أو قريته الصغيرة هي محور العالم، وما يعقده مجلس الأمن أو الكونغرس الأمريكي من اجتماعات وجلسات مغلقة ومفتوحة يطرح فيها موضوعه للنقاش كما أن شأنه يؤرق الخبراء ويسبب لهم النوبات القلبية والعصبية!

هذا بالإضافة لضيق الأفق وقلّة الاطلاع ونتيجة للانطواء وهو استعمال سيء لمفاهيم قد تكون صحيحة ومفيدة، فالعزلة عن العالم الخارجي وعدم التفسخ والانحلال فيه أمر ضروري، ولكن ماهو إطاره؟ ومتى عليّ أن أتأثّر ومتى عليّ أن أؤثّر؟ فهناك الكثير ممن يفسر كل أمر بخلفيات، ويجد لكل إشكالية حلا بمجرد تحليل بسيط، وكأن التحليل وإعطاء الرأي واتخاذ المواقف اليوم أصبح عملة سهلة وحرمة مباحة، فلا نفرّق بين المحلل والمنظّر لنهضة أمة، وبين محلّل مقابلة في كرة القدم.

فعلى سبيل المثال في الفيسبوك، حينما ينشر شخص صورة، أو يكتب عبارة، ويذهب البعض بتفكيرهم بعيدا، فيصفونها بما ليس فيها، ويعطونها أكبر من حجمها، بداعي الخبرة ومعرفة ما بين السطور، ولكن في الحقيقة هو دلالة على قصر النظر، والحاجة لمزيد من الاطلاع والاحتكاك هذا إن وجدا أصلا، فلماذا تحمل كلماتي أكثر مما تتحمل؟ وتلبسني نوايا ليست فيّ ولم أصرح بها، فإن لم أوفّق في التعبير عن فكرتي ليس معناه أني سيء النية، أو أريد إقصاءك أو النيل من انتمائك.

أو أرى الانتقاد لشخص مثلا يعمل خارج وطنه فينظر كالهارب من المعركة، ويمنع من إبداء رأيه بكونه خارج الميدان، فما هو الميدان في قاموسك؟ وهل الخروج من الوطن  يصادر الرأي ويمنع صاحبه من تقديم ملاحظاته؟، والتي ربما تكون صائبة وربما خاطئة تحتاج لنقد بناء غير جارح ولا مغلّف بنبرة هجومية أو ساخرة.

أو أرى في ما أرى في واقعي من ينتقد أي فكرة جديدة عن ما ألف هو، رغم كونها تؤدّي نفس الدور الذي تؤديه فكرته التي يؤمن بها تعاطفا فقط، لا تبنّيا فعليا، فينصّب نفسه في منصب محاماة وهمي لا يؤمن به إلا هو، ويبدأ بتقطيع الجذور، ووصف تلك الأفكار الجديدة بما ليس فيها، ومحاولة جمع كل ما هو ضدها في سبيل أن يبقي فكرته في القمة حسب تعبيره، ولو تم ذلك بالصعود على أكتاف غيره، فلا الفكرة الجديدة كان هدفها هدم القديمة، ولا من تبناها يسعى لذلك، فالخلل دائما يعود هنا للنظرة القاصرة.

لو نقارن بين شخص سافر وعاش وعايش، وبين آخر بقي في حيّه وبين جدران مدينته العتيقة، لم يغادرها أبدا، فكيف يكون الحال بينهما في تقدير الأمور؟ الأكيد أنهما يتمايزان في هذه النقطة وينظران إلى الأمور من زوايا متباينة. أنا لا أقصد بالاطلاع السفر خارج البلد فقط، فهي مستويات ودرجات، من عاش في الحي فقط، ثم من عاش في المدينة، ثم من سافر في أرجاء الوطن الواحد، ثم من زار دولا أخرى، في كل مرة يتبين لنا صغر حجمنا، وقلة معرفتنا، وضعف حيلتنا، وما أمر الله بالسير في الأرض إلا لحكم كثيرة يريد منا الاطلاع عليها والإيمان به أكثر من خلالها.

المحلية والعالمية في التعامل مع أمور الحياة يشوبها نوع من الغموض، وهي أشبه بمن يسير على خيط رفيع، فمن كان محليا محضا تقوقع وبقي في جحره،  ضاقت نظرته وكثر خطؤه، أما من أخذته رياح العالمية أيضا وانسلخ وقلّد وأصبح بلا أسس ولا مبادئ إن مالت الرياح مال حيث تميل، كن وسطا، محافظا على مبادئك، مرنا في تعاملاتك، مبادرا للخير، هناك فقط سيعرفك الناس بأفعالك لا بأقوالك.

الانتماء يتوسع ويضيق حسب الموقف، ففي حالات كن ابن قريتك، وفي أخرى ابن منطقتك، وفي غيرها ابن بلدك، أو ابن لغتك، والأهم من ذلك كله ان تكون ابن دينك، تعتز به وتفتخر، كما في حالات تكون فيها إنسانا، وكل إنسان يدخل في ذلك الإطار مهما كان دينه وعرقه، فالحكيم من يستعمل كل حيز في مكانه المناسب، ولنحذر من حميّة الجاهلية، واستعمال الانتماء لأهداف سيئة تحت مفهوم “الأنف”. فأنصر أخي ظالما أو مظلوما نعم، إن كان مظلوما أقف في صفه وأرد عنه الظالم، وإن كان ظالما رددته عن ظلمه فذلك نصر له، وهنا بيت القصيد.

فلتكن نوايانا نظيفة، ولنعامل الناس بعقل ومنطق، وليس بعاطفة محضة، وكما قال الشاعر:

كن ابن شئت واكتسب أدبا****يغنيك محموده عن النسب

لا نعطي الأمور أكبر من قدرها، ولنتبين قبل اتخاذ أي موقف، وقبل كتابة أي حرف، ولنتعاون في سبيل الأهداف الموحدة، فقضايانا الكبرى قبل الصغرى، والتي تجمعنا قبل التي تفرقنا، ولا شيء يضعف الصفوف مثل الحروب الجانبية، والخلافات الأخوية. أرجو أني وفقت لتبليغ الفكرة ولو صورة عنها، وإلا فاعذزوني فربما تتضح الرؤيا مستقبلا أكثر.