يسعى كل إنسان فهم معنى المنافسة، إلى بذل الجهد في تطوير أدائه بصفته فردا، فيضع لنفسه بعض المعايير التي ترسم صورة عامة لتصرفاته ومنتجاته وخدماته، إذ يُعرف بها في من حوله، وما ينطبق على الفرد يصلح ليكون في المجموع، فالقضية هنا تتعلق بنقطة حساسة هي “القيَم”.

انطلاقا عليّ أن أبين أن مسألة القيَم (Values) أو معايير الجودة ليس تعقيدا لفريق العمل أو شيئا يسبب عرقلة الأعمال والمنجزات، وإن بدا ذلك سطحيا، إنما بالعكس تماما، فالعمل على ضوء معايير محددة هو السر في الاستمرار والتطور، إذ إن الأمور هنا لا تقاس على مدة قصيرة، بل هي نظرة للمدى البعيد، ولأي منا أن يستقرئ قصص نجاح من نجح فعلا أو لا زال يصنع صور النجاح، ليجد أن أهم الأسباب في ذلك هي القيم ومعايير الجودة.

القيم أو مقاييس الجودة تتباين في التفاصيل من جهة لأخرى، إلا أنها تتفق بينها في الخطوط العريضة، والهدف الأول من وراء ذلك هو توفير التوافق والانسجام سريعا بين أفراد فريق العمل، وتفادي كل ما من شأنه تعكير الصفو وتكريس الخلاف، كما يستهدف أيضا إرضاء الزبون (العميل) وتحقيق منفعة متبادلة بين الطرفين، في نظام واضح قابل للتنفيذ وصالح للاستعمال.

ولتقريب الصورة أكثر، فمعايير الجودة لدى فريق عمل أشبه باليمين التي يؤديها رجال السياسة حينما يكلّفون بمهمة ما، فهو قبل أن يكون التزاما باديا يجب أن ينبع من ذات الفريق ويرقى ليكون ذهنية متجذرة، وروح تسري أثناء العمل سواء بالرقابة أو بدونها.

معايير الجودة التزام شرفي وشحن معنوي لفريق العمل كي يقدم كل ما لديه لتحقيق أهدافه المسطرة سواء في نقطة الانطلاق أو لمن التحق بالركب في وسط الطريق ليندمج سريعا وبأقل جهد، والإخلال بجزء منه يؤثر بصفة مباشرة في النتائج، وبصورة غير مباشرة في نوعية الأداء، فهو يكسّر وتيرة العمل، ويسبّب ضياع أوقات معتبرة في سبيل إصلاح الآثار السلبية الناجمة، ومهما أصلحت فمن الصعب أن تعود كما كانت، وذلك لكونها متصلة بجانب العلاقات، وليس من اليسير رأب الصدع فيها، من هنا ندرك أهمية وضع ميثاق شرفي كتعهد والتزام يحفظ العلاقات ويوضح معالم الطريق.

وعن طريقة صياغة وثيقة معايير الجودة فلا تحتاج لجهد كبير بالنظر للخبرات الماضية في هذا المجال، وببحث مركز نجد أنفسنا أمام قائمة طويلة من البنود، هذا جانب بسيط في نظري، إلا أن العمل في الأصل مبني على التجسيد والمتابعة والإنزال لأرض الواقع، فكم رأيت من مؤسسات تعلق معايير جودتها في إطار أنيق يجلب إليه كل ناظر، إلا أنها قد نسيت وغفلت عن ترك تلك المعايير معلّقة فعلا، ومارست عليها حجرا أو تجاهلا في معاملاتها، فلنركز على التفعيل والتشغيل.

استثمار معايير الجودة له صور متعددة، لعل أبرزها الاستفادة منها خلال عملية التواصل مع الزبائن والشركاء والمورّدين، بالاحتكام إليها كل مرة وتقييم تلك المعاملات، بالإضافة للخدمات أو المنتجات إذ من الضروري ألا تخرج شكلا ومضمونا عن توجّه تلك المعايير ومنحاها، فتلك القيَم هنا تعمل دور المرآة التي نقف أمامها لتقييم أدائنا، إلا أنها مرآة تتكلم وتؤشر لمواطن الخلل في تصرفاتنا وتدعونا لمراجعتها وتحسينها.

جميل أن تكون لديك قيَم لا نقاش فيها، تضحي لأجلها بأمور عدّة مادية كانت أو معنوية، فمهما علت القيَم والمعايير في فريق عمل ما على المصلحة المادية كان ذلك الفريق في الطريق الصحيح، ولكن إن حدث واختل هذا الاعتبار، فترقب السقوط عاجلا أم آجلا، كما أن من الحكمة والذكاء أيضا التعامل مع الظروف بأريحية ودقة دون غلق الأبواب من أول وهلة ولا نفي الحلول بذريعة القيم والتمسك بها دون علم ولا فهم.

لا نتخيل قضية وضع معايير جودة عالية والسير على نهجها مسألة ممتعة بسيطة، إنما هي جهد مركز يبذل، في أولى خطواتنا فيه يكون الأمر أشبه بمغامرة جنونية، إلا أنه ومع مرور الوقت تصبح القضية محسومة، وتذوب تلك العقبات فيها لتكوّن جملة تصرّفات تؤثر إيجابيا في الميدان، فما أصعب رؤية فرص تمر أمام ناظرينا دون أن نتحرك لأجلها بسبب معارضتها لمقاييسنا وميثاقنا، إلا أننا لما نقتنع بزيفها وسرابها إن نحن حاولنا الإمساك بها سنكون حينها مرتاحي البال بشأنها.

وضع معايير الجودة والاستنارة بها يُكسب الإنسان فردا كان أو في فريق عمل الاحترام ممن يتعاملون معه، إذ تكون شخصيته واضحة حينها، لا يعرف عنه التلوّن والتقمّص لأدوار لا صله له بها، فلتكن لك شخصية، ولتكن لك خطة واضحة بالاعتماد على قيَم ذاتية أصيلة.