هناك من يكتب عن الحوادث قبل وقوعها، وهناك من يكتب أثناءها حين يكون في غمرة الانفعال والتأثّر، كما أن هناك من يؤثر الانتظار لما بعد الهدوء واستقرار الأمور، لا أدري أين أصنف مقالتي هذه، فالاحتجاجات وأعمال الشغب هدأت نسبيا في منطقتي على الأقل، فيما لازالت بعض الشرارات لم تأفل في مناطق أخرى.

طرأت أحداث هامة في الجزائر هذه الأيام، وأسالت الكثير من الحبر، هي فقاعات برزت للسطح بعد سنوات من تغطيتها بشتى الوسائل لعل آخرها نشوة الفوز للفريق الوطني في العامين الماضيين، هذه الفقاعات استقطبت اهتماما عالميا لم أشهد له مثيلا منذ مدة طويلة، الأسباب في انطلاقتها مشروعة ومعقولة، غير أن الأدوات والوسائل كانت غير ذلك تماما، بل أساءت لمطالب الشعب الشرعية أو حوّلته من ضحية إلى متهم.

أكتب عن القضية هنا كموقف شخصي، لا ألزم به أحدا، ولا أمثّل به شخصا أو هيئة أو بلدا بأكمله، أكتب وفق ما تراه عيني مباشرة، لا ما قيل لي أو قرأته في أعمدة الجرائد وشاشات الفضائيات، حقيقة هي مهزلة وأية مهزلة.

قبل أيام كان الناس صفا واحدا للاحتجاج حول النمو الخرافي للأسعار بغير تناسب مع القدرة الشرائية للمواطن البسيط، أقول البسيط عملا بالأثر: “سيروا على قدر ضعفائكم”، فهناك عدد معتبر من ميسوري الحال، ومن الأغنياء غنى فاحشا، كما أن هناك نسبة كبيرة ممن هم تحت خط الفقر، فلو سلمنا أن الأرزاق بيد الله، وأزحنا من المعادلة من كان الثراء الذي يعيش فيه من عرق جبينه، أو جبين عائلته فنشأ في ظروف يسيرة، وكذلك أزحنا من كان الفقر قدرا محتوما له بعد كل محاولاته في الاسترزاق والكد والعمل ليل نهار، يبقى هناك فريق آخر أود الحديث عنه.

هذا الفريق هم الذين كانوا أغنياء أو فقراء بطرق غير شرعية! الغني بطريقة غير شرعية واضح وكلكم تعلمون سبيله في الاسترزاق، لا داعي للتفصيل فيه، أما الفقير فكيف؟ نعم هناك فقراء هم أرادوا الفقر لأنفسهم، وهم من اختار ظروفه الصعبة، وبالمثال يتضح الحال.

  • هل سمعتم بعائلات تملك قطع أراضي بالوراثة، فتبيعها لغيرها، لتستهلك ذلك المال كله، فيما توفر لنفسها مسكنا قصديريا بحطام الحديد وبقايا السيارات وتعشّش كالفطريات في ضواحي المدن والقرى، أبناؤها يقتاتون بالسطو والخطف؟ هذا موجود كواقع معاش، وحينما يتسنى لهم الانتقال لبيت جديد من سكنات الدولة، لا يلبثون أن يتخلصوا منها بيعا أو كراء ويعودون لبيوتهم المهترئة بحجة كونهم في هذه الحالة لا يدفعون فواتير الكهرباء ولا الماء!، وأذكر قصة وقعت لي شخصيا حينما كنا في حارتنا نشكو السرقات المتكررة، وعندما ترقبنا ذات مرة السارق إذا هم مراهقين من الحي القصديري المجاور، لحقناهما إلى أن قبضنا عليهما، فسألت أحدهم أين أبوك؟ قال لي: هو في السجن! فأطلقت سراحه فورا خوفا من أن أصبح أنا الجاني ذلك، وأنا أقول: إذا كان الوالد مجرما فكيف بالابن؟!.
  • هل سمعت بشباب بطال تعرض عليه وظائف عمل لكنه يضع شروطا تعجيزية رغم شهادته التي تحصل عليها دون تفوق في مجاله، شباب يختار العمل اختيارا، ولو كان في غير بلده لعمل ولو ماسح أحذية في الشارع! لماذا هناك نعم؟ وهنا لا؟.

هذه صورتين كما هناك أخرى موجودة بكثرة، فالكثير من الشباب الذين ثاروا على ما سموه الحقرة والظلم، كانوا ليفعلوا نفس ما فعل الذين يسبونهم ويحاربونهم لو توفرت لهم السبل وتيسرت لهم نفس الظروف. كما أنهم في حقيقة الأمر لم يحتجوا بسبب السكر ولا الزيت ولا الخبز، إنما تفريغا لشحنات غريبة، ونزولا عند نزوات خبيثة، حتى أفسدوا بفعلهم هذا مطالب بريئة لشعب لا يطلب إلا كرامته في العيش، وحقه في الاستمتاع بوطنية حقيقية لا زائفة، شعب يعمل ليل نهار ولكن لم يبلغ حد الاكتفاء الذاتي، حتى لجأ إلى الاقتراض، أو العمل 24 ساعة لضمان قوت العائلة.

كل جزائري عاقل شريف سوي يوافقني الرأي في صحة المطالب وأحقيتها، لكن التخريب والسرقة فلا! لا أقبل أنا أن يمثلني حفنة سكارى، للمطالبة بحقوقي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن لمن كان السبب في كل هذه المشاكل أن يختبئ وراء هذه الحجة، فحتى هو له يد على القضية.

أود أن أكون صريحا وأقول: كل فرد في القضية له جانب من الخطأ، والخطأ متكرر، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلا أدري كيف لشباب يلبس آخر الصيحات، ويملك آخر الهواتف النقالة، يتقمص دور الضحية والمسكين والفقير المعدوم، ولا أدري كيف لآخر تعرض عليه مختلف الوظائف إلا أنه يتمنع ويختار أريحها وأسرعها مردودا ولو لم يكن أهلا لها!

هذا جانب مما هو موجود في الجزائر وفي كل بلد في العالم العربي خاصة، لذا فلا معنى لكل تلك الهالة في الإعلام وكأن الجزائر بدعا من العالم، فلدينا مشاكل نعم، ولدينا ما هو جميل ومبشر أيضا، أبناء الجزائر ليسوا بكل تلك الصورة القاتمة، وليسوا كلهم ملثمون سارقون مفسدون، لدينا من يصنع الأمجاد كل يوم، هنا أو خارج الوطن.

في هذه القضية هناك من يسيء لوطنه عن قصد ودونه، فاحترس أخي عن ما تكتبه في الفيسبوك أوغيره من أخبار مضخمة مبالغ فيها، فلا تكن فتّانا، بل عليك أن تسعى لما يصلح ويبني لا لما يهدم، كما عليك أن تكوّن صورة حقيقية عن بلدك دون تهويل ولا تهوين، فالوطن ليس أولئك الأشخاص الذين تسبهم وتكرههم، لأنهم سيرحلون ويموتون يوما ما، ما يبقى هو الأثر، فاعمل لنفسك أثرا طيبا في محيطك، وعندما يفعل هذا كل شباب الجزائر أكيد ستتحسن الأوضاع عندئذ،.

ظروف الجزائر لا يمكن أن تقارن بتونس، فتونس أسوأ حالا، والله االمعين بشبابها وشعبها، أقول هذا عن تجربة وواقع عشته، الجزائر في خير كبير بالمقارنة، دون إنكار العراقيل والمشاكل والبيروقراطية التي هي من صنع المواطن أيضا وله يد فيها، فالشرطي الظالم مواطن، وموظف البلدية المتكاسل مواطن، والمستورد المحتكر مواطن، و…هؤلاء متوفرون في كل بقاع الأرض مع تفاوت في النسب طبعا.

الجزائر تقوم بأبنائها، وبعقولهم وأيديهم، والأمل قائم وموجود، فحب الوطن هو العمل بوفاء وإخلاص، وليس شعارات في مدرجات الملاعب أو الشوارع، حب الوطن يتجلى في الأمانة والثقة، لا بالسلب والاختلاس، أحب وطني وأدعو الخير له ولأبنائه الخيّرين، كما أدعو الهداية لمن حاد عن جادة الصواب، أما من يترصد له من أبنائه أو غيرهم فالله هو الوكيل والكفيل بهم.