لا يقرأ القارئ كتابا، أو مقالا بغرض التسلية فقط أو الترف وتمضية الوقت دون التعمق في فهمه ومحاولة إسقاطه على أرض الواقع، مختبرا أداء أفكاره ميدانيا، فما أكثر القضايا التي تحتاج فعلا للتأمل والفهم، وما أكثرها كذلك التي لا تملك أن تجعلنا نصرف فيها لحظة من الزمن، ولا ذرة اهتمام.

طور المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله مفهوم الفكرة الأصيلة والفكرة الفعالة وأورد تفصيل ذلك في كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، فالفكرة الأصيلة تملك ديمومة صحتها على مر الأزمان، دون شرط أن تكون فعالة، أما الفكرة الفعالة فهي التي تغير أوضاعا معينة وتقلب واقعا ما، وليس شرطا أن تكون صحيحة، إنما تلبس قناعا مزيفا لتدخل به التاريخ، وأفضل مثال على ذلك هو الحضارة الغربية المهيمنة والمسيطرة هذا العصر رغم علمنا جميعا بفجواتها ومصائبها في جزء كبير منها.

كمسلمين نملك من الأفكار الأصيلة ما لو كسيناها بثوب من الفعالية كنا أسيادا، لا بقوة قانون أو سطوة ظلم، إنما لتبليغ رسالة الله في الحياة، بطرق علمية منهجية، فالله تبارك وتعالى كفانا مؤونة الأفكار الأصيلة بمصدر لا ينضب هو القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، يبقى علينا تفعليها، والعمل بجد لترجمتها في أرض الواقع، ولا يأتي ذلك إلا بجهد تفكير وفعالية عمل.

من أمثلة الأفكار الأصيلة التربية بالقدوة، وأفضل قدوة هي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة الأنبياء عليهم السلام، والصحابة رضوان الله عليهم، وكذا عظماء الأمة قديما وحديثا، هذا من الجانب النظري، أما عن إنزال الفكرة لأرض الواقع فقد كانت فيما مضى طريقة التعليم بالقوة والقهر (العصا)، وحلقات التعليم الإجباري وسائل فعالة آتت أكلها لتبليغ تلك الأفكار وبثها في عقول الناشئة، ثم مضت حقبة من الزمن تلاشت فيه تلك الطريقة وأصبحت غير مناسبة وبالتالي غير فعالة، فعوّض ذلك الكتاب والقلم، وصار تاريخنا مدونا في الكتب الصفراء ثم البيضاء والملونة، ولاختبار أداء الفكرة ليس أفضل من التجاوب في حياة تلك الأجيال، وهذا بدأت الفكرة كذلك تتلاشى ويضعف مفعولها أمام حلول جديدة أخرى اقتضاها الواقع كذلك.

حتى صرنا لزمن لا يعترف فيه الصغير وحتى الكبير بغير الألوان، والحركة والإبداع في الوسيلة وفق ما يليق حاليا، فليس المهم ما تدعو إليه بقدر ما يهم الوعاء وحامل تلك المادة، وقد سيطر أصحاب الأفكار الفعالة فقط دون أصالة، بالتحكم في عقول أجيال كاملة، واحتلوا مساحات مهمة من عقولهم ووجدانهم، وما كرة القدم ونجومها وعالمها كله إلا مثالا، بالإضافة لعالم السينما ونجومه وعالمه كذلك، أيبقى بعد ذلك من يدعي الأصالة في أفكاره متفرجا بعدما فقد كل فعالية منها؟

الحكماء من الأمة من المفكرين والدعاة وعلماء الدين وعلم الاجتماع وعلم النفس، كلهم مدعوون للتفكير في هذه المواضيع، فهي ليست حكرا على أحد منهم، وكما نعلم فإن زمن العالِم الفذ الموسوعة قد مضى، فصرنا بتجاذب الخيوط وتعددها نحتاج للجماعات العلمية، ومراكز التفكير وصنع القرارات، فيما يسمى بفقه النوازل، فعجلة العالم تدور بسرعة متزايدة، وعقول الناس ترى البدائل وتطلع على التجارب الأخرى لا تنتظر الآراء العرجاء، والخطابات المزدوجة، في ظل المنافسة بين الأفكار الفعالة الخاطئة -وهي المسيطرة- وبين الأفكار الأصيلة الفاقدة لفعاليتها وهي الضعيفة النائمة.

من محاولات تفعيل الأفكار إنجاز أعمال سينمائية وتلفزيونية تتناول تاريخ الأمة وأمجادها، وبعدما قلّت نسبة المقروئية لأسباب كثيرة منها ما نعلم ومنها لم نكتشفها بعد، فصارت الأجيال تفضّل ما يأتي بالصوت والصورة، واستغل غيرنا ممن فهم متطلبات المرحلة، وخبر أسرارها، فسلك الطرق المختصرة، وسبقنا في عقول أبناء الأمة فاحتكر تفكيرهم، وسلب اهتمامهم، فلم يبقوا لأفكارنا الأصيلة فسحة ولا فرصة.

وغابت الأمثلة الناصعة من القدوات في التاريخ، وجاء بدلا منها اللاعبون والممثلون، فالطفل ببراءته يتقمص أدوار من يتأثر به، فإن كان قد ولد ووجد نفسه في غرفة الاستقبال مواجها التلفزيون، فكيف نريد منه غير تلك النتيجة؟ لا نمنعه منها وإنما نوجهه لقنوات تضاهيها مظهرا وتختلف عنها أفكارا، والقوة حاليا شئنا أم أبينا في تلك القنوات الضخمة تقنيا وفنيا، وعلى قنواتنا بالدرجة الأولى أن تنتهج القوة في أدائها شكلا ومضمونا، دون ابتذال ولا تقليد سطحي.

وبالاطلاع على آراء الرافضين لتجسيد تلك الأعمال، نجد الطرفين يملكان من الصواب جزءا ومن الخطأ نصيبا، والإنسان جبل على الخطأ، فلا لوم ولا نكرانا، إنما من نادى برفضه للفكرة مطلقا لم يوجد البديل والحل، وإلى ذلكم الحين، فالشركات تنتج، والأعمال تصدر الواحدة تلو الأخرى، والعجلة تدور ولا تنتظر، أمثال هذه الصراعات متروكة للزمن يظهر صحتها من بطلانها.

إن أنكر معارضو إنتاج أعمال درامية تتناول حياة الأنبياء والصحابة لأخطاء فيها، فهذا معقول، لأن التدقيق والتمحيص في المعلومات مهم وضروري، لكن عليهم ألا يتعلقوا في تلك القشة فقط، لأنهم لا محال غارقون، وهل سلمت الكتب من الأخطاء والاختلافات في المعلومات أحيانا، إلا إن شاؤوا أن يكونوا هم المرجعية في كل حرف وخطوة، هذا أمر آخر، لنقبل اختلاف الرأي، ولتكن اجتهاداتنا رفيقة بعقول الناس، حتى لا نفقد المصداقية، ولا نجابه خصومنا بغرض المعارضة وإيجاد الحجج فقط، ففي زوال الإخلاص زوال النية، وهل يبقى شيء بعدهما؟

تبقى فعلا هناك أمور تحتاج للبحث أكثر كتجسيد الشخصيات، فهذا أمر يحتاج لدراسة متأنية من كل الجوانب الشرعية والتربوية والفكرية، وأملي أن تكون آراء كل طرف مدروسة، ومبنية على علم وبحث معمق، لا على تكهنات، أو مجرد وجهات نظر سرعان ما تنقلب أن تضطرب لتغيّر جزئية من جزئيات القضية، فأمثال هذه القضايا المصيرية لا تعالج بالظن وحديث المجالس، ولا تحلّ في استوديوهات التحليل ارتجالا وعلى المباشر.

إذا كان التأريخ قديما بدأ في جدران الكهوف، ثم انتقل للجلود، ثم الأوراق، ثم الكتب، فاليوم الصراع في الإنتاج السينمائي والتفزيوني، وككل مرحلة مؤخرا للأسف دائما كنا الملتحقين اللاهثين بالركب لا المبادرين، لأننا رضينا بحياة الاستهلاك، واخترنا طريق أسلمة الأمور بعدما تفّصل أثوابها، فغيرنا يفعّل أفكاره الخاطئة بحزم وإتقان، ونحن ندفن أفكارنا الأصيلة فرحين مهللين لا نبالي، أنحسب أن الله غدا غير مسائل لنا؟!