يموج العالم حولنا بالفتن والأزمات، منها ما علمنا ومنها ما لم نعلم، منها ما شد انتباهنا ومنها ما لم يلق منا إلا التجاهل والإعراض، لأسباب كثيرة لعل أهمها قدر التناول الإعلامي لها، وربما حتى تحكم الآلة الإعلامية بنموذجها الحالي في خرائطنا الذهنية وترتيب أولوياتنا واهتماماتنا.

عمت الجزائر رحمات من الأمطار والثلوج كانت بردا وسلاما على فئة منا، كما جاءت وبالا ومشقة على فئات أخرى، وبينما نحن غائرون في متابعة كل صغيرة وكبيرة -أو معتقدين ذلك- مما يقع في بقاع العالم من ثورات وأزمات اقتصادية وإنسانية نتتبع حيثياتها لحظة بلحظة عبر القنوات الفضائية وصفحات الإنترنت، (مع دعائنا لله بنصرة المظلومين والانتقام من الظالمين)، هناك إخوان لنا تقطعت بهم كل سبل الحياة وحالت الثلوج بينهم وبين أبسط ضروريات الحياة كالماء والغذاء والغاز وظروف التدفئة، بل تعدى الأمر إلى عدم توفر بقعة أرض لدفن الضحايا!

هنا فئة من الناس ذهبت في سبيل إلقاء اللوم على الدولة بكونها لم توفر ما يمنع حدوث هذه الأزمات بأبسط الإمكانات، مدعمين بجرائد همّها صب الزيت على النار والتحريض على هذا النوع من التفكير السلبي فلا الوقت وقته ولا الحجم حقيقة حجمه، فأبن من جرائد تنقل لنا أجمل الصور والأخبار مما يثلج الصدور ويزيد من جرعات الأمل؟ فيما كان البعض الآخر ممن حمل على ساعد الجد وأجل هذا الحديث ولو مؤقتا –لأنه أمر واقع- ليهبّ لنجدة إخوانه ممن ابتلي بالعاصفة الثلجية، والابتلاء جزء من الحياة وفرصة للاغتنام إن نحن احتسبنا وصبرنا.

صور رائعة يصنعها أبناء الجزائر -وهكذا تعودنا- بتضامنهم مع المنكوبين، والعمل متواصل ليل نهار في فتح الطرق والمسالك التي غمرتها الثلوج، لإيصال المؤن وإسعاف المصابين والمرضى، والجيش الوطني الشعبي بجنوده وعتاده الضخم لم يأل جهدا في أعمال الإغاثة من جهته أيضا، وهذا واجبه ومن صلب مهامه مع ذلك له الشكر جزيلا والدعاء بالقبول للمخلصين.

وقد روى لنا أحد وجهاء منطقة القبائل حجم تلك المعاناة التي يشهدها سكان المداشر والأرياف ممن كانت بيوتهم على سفوح أو قمم الجبال، إلا أن تلك المعاناة قابلتها جهود التضامن والدعم المادي والمعنوي فخففت بعضا من لوعتها، فالأزمة وحدت الجميع وأذابت الجليد الذي كسا القلوب فضلا عن الذي أثقل الأسقف والجدران، الكل أصبح متعاونا حاملا لهمّ أخيه مؤثرا مصلحة الغير على مصلحته، آخذا بحاجة الضعيف قائما بواجبه محسنا فيه، مستغنيا عن حقه وحاجته وهو أحوج إليها.

أذكر قبل حوالي 4 سنوات (1 أكتوبر 2008) حينما نكبنا في بلدتنا (مزاب) بفيضان صبيحة عيد الفطر المبارك، ورغم صعوبة تلك الظروف وقساوتها إلا أنها لحظات خاصة جدا، جعلتنا نتيقن من كمّ الخير الذي يحمله الناس في قلوبهم فترجموه لأفعالهم، ونقف على حجم ذلك التآزر والتضامن لتجاوز الأزمة وإعادة المياه إلى سواقيها، فلسنا فقط من ابتلينا، وإنما سنة الله في الحياة أن يبتلي عباده وكل في عمقه يعلم المغزى والمعنى من ذلك، منهم من جاءه ابتلاء ومنهم عقابا ومنهم إنذارا ومنهم نقطة تحول نحو حياة أفضل ماديا ومعنويا، وفي كل خير لو وعينا وفهمنا.

والله تعالى في محكم تنزيله يقول: “إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين” (140، آل عمران)، فماذا نستفيد من كل هذه الأزمات؟ أليست مجالا للسعي في الخير وثورة في الأخلاق؟ أليست فرصة للانتقام من ظلم الأنا ونفض غبار الغفلة عن معاني النصرة؟ أليست اختبارا للسعي في حاجة الغير؟، فللأسف لم أر من الإعلام غير الحديث عن الجانب المظلم للأزمة مغفلين فيه وجها مشرقا جليا وواضحا، مصدّرين منه رسائل كلها سلبية وضبابية تزيد الأمر تعقيدا والمستهلك لها يأسا وقنوطا.

من باب الإنصاف وإحقاق الحق، فقد أعجبني أداء القناة الوطنية “اليتيمة” أيما إعجاب أزاء هذه الأزمة، وإن كان الهدف وراء ذلك انتخابات قادمة لتبييض صورة الحكومة رغم عجزها حسب ما يصفه الكثيرون، ومن وجه آخر فأمثال هذه الأزمات امتحان عسير لمصداقية تلك الأجهزة المنتخبة التي لا يرى المواطن نتائجها واضحة في الميدان، ولمن يريد ترشيح نفسه أن يعيد قراءة قراره مرات ومرات، فالناس سئموا الوعود وملوا العناوين البراقة والخطب الرنانة، وما فائدتها إن كانت مجرد رجع صدى؟

إلا أن هذا لا يهم أمام ما نرى ونشاهد من تضامن وتآزر مهم في مثل هذه الظروف، صنعه ويصنعه الشعب الجزائري الشهم، بقوافل المساعدات المحملة بمواد غذائية وأدوية وأفرشة وغيرها مما الناس في أمس الحاجة إليه هذه الأيام، فمن رحم كل أزمة تولد أنوار الخير وتزهر ورود الأمل، وتشتد جذوة العمل، ومن طريق الواجب تخطو الحضارة أولى خطواتها، ولا يفقه هذا المعنى إلا من هو في الميدان مرابطا مجاهدا.

في الأخير أنبه لملحظ مهم جاء على لسان عالم ممن حضر الأزمة ووقف على جهود التضامن والإغاثة، فقدأخبرنا أن هذه العواصف الثلجية ليس بالجديد، وإنما تكرر حدوثها على مر السنوات الماضية، فمن سبقوا كانوا يتجاوزونها بشكل أبسط وأخف مما هو عليه الحال الآن، ويعود الأمر في ذلك إلى اعتمادهم على أنفسهم مما عملته أيديهم، فنصيب منه يستهلكونه والجزء الآخر للادخار، أما حاليا فالمحلات التجارية المجاورة لكل بيت، توفر الجاهز لسد حاجة وجبة واحدة فقط، مع تقافة الاستهلاك الجديدة الآن، مع الأدهى والأمرّ من ذلك أن كل سلعنا تقريبا مستوردة، فكفى بأزمة هناك في البلاد المصنعة تؤدي بنا للجوع والحيرة ندق حينها الأجراس ونعيش في حالة من الطوارئ!

—————————-

اللهم الطف بنا وفرج عن إخواننا كل هم وغم، ربنا لا تكلنا إلا أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك، يا أرحم الراحمين، آمين يارب العالمين