منّ الله عليّ بأيام غريبة كنت فيها أقوم بزيارة لمدينتي الغالية غرداية الساحرة “مزاب”، قضيت فيها لحظات متباينة الشعور فكان أولها حزن ووسطها فرح وآخرها حزن آخر، وهكذا أعمارنا في الدنيا كألوان أمامنا فتارة بالأبيض وأخرى بالأسود نراها وبينهما تدرجات ودرجات.

أما ما حزنت لأجله فكانت جنازتين، إحداهما لشابة في مقتبل العمر، والأخرى لامرأة بعمر الجدة، هما من قريباتي رحمهما الله، وكلاهما أصيبتا بمرض السرطان أعاذنا الله وإياكم وكل عزيز لديكم منه، وكم في الجنائز من عبر لو علمنا، وكم في محطات الحياة الصعبة من اختبارات لو فطنا.

ذكرت الحادثتين لكونهما استوقفتاني كثيرا، ففي الأولى جاءني الخبر صاعقا وأنا في طريق السفر ليلا عازما على حضور عرس في العائلة، فإذا الأهداف تتغير ولا مغير لها إلا الله، فأصبحت في جنازة أشاهد ما لا تحتمل العين ولا تجد لها إلا الدمع يخفف ولو قليلا، فصورة الرجل الصبور المحتسب تجلت في زوج المتوفية عيانا، وهذا من أشد ما جعلني أراجع الكثير من المفاهيم في نفسي، وأحاول الاقتداء والتشبه على الأقل في ظروف الحياة البسيطة التي لا ترقى لدرجة فقدان الحبيب!

أما الحادثة الثانية فكانت مباشرة بعد إتمام لحظات الفرح التي تلت الجنازة الأولى منذرة بتقلب الدنيا، فالإنسان يعيش حياته متفائلا عاملا مجدا نحو الأفضل دائما مستشهدا بقوله تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” لكنه لا يفترض به أن ينسى ولو للحظات أنه زائل وميت يوما ما، فلا إفراط في الأمر ولا تفريط.

بين الجنازتين كان هناك عرس، وأي عرس، لحظات رائعة حقا عشناها في اجتماع عائلي وتكافل اجتماعي قل له نظير، ولو أستفيض في الكتابة عنه لملأت مجلدات وما وفيته حقه، فالحمد لله الذي جعلني من أبناء مجتمع متماسك عريق اسمه “مزاب” ، اللهم زدنا ولا تنقصنا، أنظمة رائعة وضعت بدقة تجعلك تحس وكأنك تعيش حياة النحل في خلاياها، منشآت ضخمة بأموال المحسنين مجانا تغنيك عن قاعات الحفلات ومصاريفها، مراحل العرس تسير بآليات معلومة وواضحة، كل قد علم مهمته فقام بها على أكمل وجه بابتسامة وإخلاص، لا يريد من وراء ذلك جزاء ولا شكورا.

وفي نفس الوقت كانت المدينة تشهد أعراسا أخرى لا تقل أهمية، فقد شاهدت بأم عيني تلك الثورة الأخلاقية التي قام بها شباب كل في محيطه ومنصبه وكل بمستواه وقدرته، المساجد والمصليات تنظم الأسابيع الثقافية بسواعد وحماسة الشباب وروح الخبرة من الكبار تعلوها وترشدها، والناس ملتفون حولها ينشدون ضالتهم ويطلبون الحكمة وينتظرون الإشارة للعمل لأجل مدينة نظيفة ماديا ومعنويا.

كما كان الحدث الأبرز تلك المرحلة، تتويج حملة الشباب حين نادوا بغلق أكبر بؤرة فساد في غرداية بعد سنوات من الحيرة والتعامل بموقف المتفرج الباكي بينه وبين نفسه، فانبرى مجموعة من الغيورين كل بوسائله السلمية الحضارية معترضا على تدنيس بقعة شريفة طاهرة بمستودع للخمور يستهل المدينة في مدخل من مداخلها، فبعدما شرع في تنظيم وقفة واعتصام عن طريق بث الخبر مباشرة بين الناس وفي صفحات الفيسبوك، كان والي الولاية قد حسم المعركة لصالح الحق أياما قبل الموعد المحدد للاعتصام فأصدر قرارا بإغلاق المخمرة ليتنفس الناس الصعداء.

الموضوع لم ينته عند هذا الحد طبعا، فالشباب عازمون على تغيير وجه المدينة للأحسن بيئيا إيمانا بأنه على قدر ارتياحنا بمحيط عيشنا يكون أداؤنا أكبر وحياتنا أفضل، وامتثالا لنداء الفطرة وتلبية لواجب ديني أمرنا به، رافضين ذريعة كانت انتشرت كالوباء من طرف عصابة أفسدت في المدينة أيما فساد “هذا ليس شأنك بل هي مهمة البلدية!” فخربت المفاهيم والديار بهذا التفكير القاصر، وأصبحت المدينة التي كان يضرب بها المثل في النظافة وسمو الحس المدني لدى الناس إلى أحياء تكسوها القمامة بما كسبت أيدي الناس، فتنمية الحس المدني والبيئي رسالة المجتمع إن شاء الله في هذه المرحلة، فاللهم أعنا ووفقنا.

وفي موضوع آخر شد انتباهي كثرة السياح الأجانب خاصة الأوروبيين في أحياء المدينة، وهذا أمر جميل ومبشر من جهة لكنه مؤسف جدا من جهة أخرى كونهم يفضلون الاحتفال بأعياد الميلاد “الكريسمس” في أرضنا ويتنعمون باحتساء سمومهم بمباركة من إخوان لنا، فكان -من أضعف الإيمان- على الأقل أن نكون دعاة لهم بحالنا لا بمقالنا، لكن هيهات فالأكيد أنهم أتوا من مناطق راقية يفترض أن يدين أصحابها بالإسلام إلى أخرى يدين أهلها بكل شيء إلا الإسلام!

على كل هم فتح مبين للتجار في المدينة خاصة من يمتهن بيع التحف والآثار المحلية المعبرة عن تراثنا، فالزرابي التقليدية مثلا تطلب بشدة في مثل هذه المواسم وترتفع أسهمها بشكل ملحوظ، وأملي أن يتضاعف السياح مستقبلا بشرط أن يلتزموا بشروطنا ونظامنا حينما يكونوا تحت ضيافتنا ولهم منا كل الاحترام والأمان.

هذه كانت مجرد انطباعات على السريع لأيام مضت سريعة بإيقاع متضارب في مدينتي الأصيلة الهادئة.