يحكى أنه في قرية من قرى الجزائر النائية، كانت هناك قبيلة عريقة محافظة، تعيش حياة البساطة والهدوء، بضع ييوت صغيرة متناثرة هنا وهناك، يقطنها سكان ورثوا الطيّبة من أبائهم، منهم رجال ونساء، شباب وصغار، كهول وشيوخ، لهم قوت يومهم مما تحرث أيديهم من حقولهم التي يكلؤها الله بالرعاية، فيرزقهم منها ما كتب لهم.

تلك الحقول كان من جهة وبيوتهم من جهة أخرى، يفصل بينهما مجرى وادي، فوقه جسر خشبي قديم من صنع جيل مضى كان يعيش في نفس القرية، فحدث يوما أن هطل الغيث وارتوى الزرع، وفاض الوادي فتصدع الجسر وانكسر، وكل هذا قد حدث ليلا وأهل القرية في سباتهم ينعمون، فالظلام منتشر لا تُرى من خلاله إلا نقاط خافتة لأضواء المدافئ في عز شتاء قارص.

ما إن استيقظ الناس صباحا للعمل والنشاط كعادتهم، حتى فوجئوا بجسرهم لم يصبح بخير مثلهم، فجلسوا جماعات يتحاورون ويتجادلون حائرين، منهم من عاد باللائمة على من صنع الجسر وراح يطلق العنان لخبرته ويصحح أخطاء وقع فيها من قبله مستعملا “لو” بكثافة، ومنهم من صب غضبه على مستعملي الجسر حيث كانوا يثقلونه بعتادهم ويكثرون استعماله! وفريق آخر يلوم كل شخص غيره إلا نفسه، فحل المساء والقوم على ذلك الحال.

في القرية كان هناك فتية أخذوا نصيبهم من وصف الحال أيضا كغيرهم، إلا أنهم سرعان ما تفطنوا لأمر هام: ما الحل؟ وما الفعل؟ وهل سيغير الكلام فقط شيئا؟ فاتفقوا على موعد لترميم الجسر، كي يتسنى عبوره وطلب المعونة من القرى المجاورة لتشييد جسر جديد يقوم مقام الذي قبله، وهكذا أذاعوا الخبر وحددوا الموعد.

عند الفجر التقوا في مكان العمل، بعتاد بسيط وعزيمة قوية، ومباشرة دخلوا جو العمل والفعل، فمر عليهم جمع من الناس قالوا لهم: ما الذي ألجأكم لهذا؟ أليس من الأجدى أن يكون متينا منذ أول مرة صنعه أجدادنا؟ وراحوا يستهزؤون بهم ويتنبؤون بسقوطه ثانية ولو بعد أعوام، أما فريق آخر فكان له رأي آخر وجاء يحاضر ويخطب في وصف المشكل، وكيف أن هناك في بلاد أخرى لا يقع مثل هذا، وأن كل ما يتم صنعه في تلك القرية لا يرقى للجودة وو…، كما كان هناك من مر عليهم صامتا، ومن دعا لهم بالخير وشجعهم، كل هذا وهؤلاء الفتية يعملون دون كلل أو ملل.

ونوع آخر كان معهم ممن يعمل ولكن ما إن يحمل الحجرة الأولى حتى يتسلل متذرعا بذريعة واهية وينصرف، وهكذا إلى أن تم تشييد الجسر ليصلح على الأقل للمرور ومواصلة الحياة، فالهدف في تلك المرحلة فك عزلة القرية كأولوية، بينما كانت المرحلة الموالية إعادة النظر في كيفية بناء الجسر وتحديثه وفق متطلبات ذلك الزمن، ولسان حال المنصفين من كبار القرية يقول: “إننا أوجدنا حلولا لعصرنا فعليكم أنتم أن توجدوا حلولا لعصركم”(◊)، فهم شهدوا وشاركوا في بناء الجسر حينما كانوا شبابا، وشهدوا تجديده من أحفادهم، فلم يستأثروا بالحكمة وتواضعوا إكبارا لثفاقة وعلم جديدين عليهم.

وعاد الجسر بعدها للعمل فاجتازه العاملون والمثبطون، الواصفون والفاعلون، وهكذا كان نفعه ممتدا للجميع، فرحم الله مالك بن نبي مورد هذه القصة (◊◊) في إحدى مؤلفاته، وقد ختمها بمقولة قوية: “من هذه الطريق بالذات خطت الحضارة أولى خطواتها”(◊◊◊)… فما الذي نستفيده من القصة؟ وما دورنا نحن؟

لو نعود لمجريات القصة فنفصّل كل فئة من الحاضرين فيها، نجد أنفسنا ننتمي بحكم تفكيرنا لأحدها لا محال، فالمصاعب كثيرة، والمشكلات عديدة، وهكذا حال الدنيا وإلا لما شعرنا بمغزاها ولما كان لنا الدافع لخوض غمارها، فنحن في الأخير إما أصحاب حقوق في ظروف معينة، وإما واجبات في ظروف أخرى، وفي الحالتين هناك مقابل لنا يحمل الدور الآخر، ولكن ماذا لو قام كل منا بواجباته؟ أليس بالتالي يؤدي حقا من حقوق غيره؟

عانت المجتمعات التي تطالب بحقوقها دون واجباتها بتدني أوضاعها وأحوالها، كما تميزت غيرها ممن بثّت فيها معاني الواجب والحرص عليه بازدهارها ورقيّها، ولا يكون هذا الأمر وليد لحظات أو شهور، وإنما عمل مكثف ينطلق من أدنى قاعدة ليصل إلى القمة تدريجيا، فلا هو بسيط ولا هو صعب، والأسرة أفضل تربة ينبت فيها هذا المعنى، فالوالدان يدفعان أبناءهما لتحمل مسؤوليات الحياة تماما كما تكون أولى دروس السباحة حيث يشرح المدرب أولى المبادئ، وإنما في التنفيذ يرمي المتعلم خلسة في المسبح ولا يصير متعلما إلا بشربه لجرعات معتبرة من الماء، وما تلك إلا صورة للمتاعب التي يواجهها.

القيام بالواجب ثقافة، وأحسن سبيل لغرسها هو طريق التربية والقدوة، فما الذي جعل الأصوات اليوم ترتفع منادية بشتى المشاكل التي تقع هنا وهناك؟ ولعل أبسط مثال، الغزو الكثيف لأكوام القمامات والنفايات في أحياء المدن والأرياف؟، ما الذي جعل ذلك الإنسان يقول إنها مهمة البلدية ولا دخل لي فيها؟ بل ما الذي جعل من بيده الأمر في تلك “البلدية” لا يقوم بواجبه؟ لأنه ببساطة لو تدخل مكتبه وتفتح مع حوارا فلا تجده يحاجج إلا على مستوى حقوقه، يعني الكل ينادي بالحقوق فقط، وكأنها ستنزل بردا وسلاما من السماء!

القائم بحقوقك إنسان مثلك، وحقك هو واجبه، ولكنه يشترط حقوقه أولا ليقوم بواجباته! أليست القضية هنا أشبه بقصة الدجاجة والبيضة؟ لنجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة لا نجني منها إلا الدوار والصداع، الحل يا أخي ويا أختي هو أن نجسد “إنسان الواجب” لا نكون مجرد طالبي حقوق، وإن تطلب ذلك تنازلات منا، فالتنازل فن وفضيلة.

لنتصور وجود كمّ معتبر من “إنسان الواجب” بيننا، من المنطقي ألا تبقى حقوق إلا وأدّيت، فلنكن حاملي مسؤوليات غير متعلقين بغيرنا، فإن شر البلية أن نستعبد فكريا، بعدما تخلصنا من العبودية والرق بمعناهما التقليدي، وما أكثر الاستعباد الفكري هذه الأيام، ورحم الله الشيخ البشير الإبراهيمي حين قال: “كيف يفلح من يحمل رأساً عبداً” -بالتركيز على التنوين-، فما إن تخلصنا من تلك الرؤوس ييننا، سنبني حضارتنا، ونصدّر أفكارنا بالحال لا بالمقال، أعلم أن المهمة أصعب مما نتصور لكنها غير مستحيلة، فلأجل الجزائر نبادر وسنبقى نبادر ماحيينا…

  • (◊): أصل المقولة للشيخ عدون رحمه الله، حينما استشاره د. باباعمي في فتح مدارس خاصة وفق متطلبات العصر فكان رده الحكيم كما ورد.
  • (◊◊): أعدت صياغة القصة وحاولت سردها بالمعنى.
  • (◊◊◊): وردت العبارة أيضا بصيغة أخرى: ” من طريق الواجب فقط تخطو الحضارة أولى خطواتها” للدكتور باباعمي.
  • مصدر الصورة: [فليكر]

  • هذه المقالة كتبتها كمشاركة في يوم التدوين الجزائري في نسخته الثانية، تحت شعار: “من أجل الجزائر نبادر”، يمكنك التصويت عبر الرابط: [DZBlogDay] بعد التسجيل في موقع Bloginy.

مشاركة العام الماضي: ربوا بنيكم لزمان غير زمانكم.