يفعل الجاهل في نفسه ما لا يفعل العدو في عدوه، لعلها أنسب عبارة نصف بها حالنا في موضوع غذائنا هذا العصر، فمن مشكل نقص التغذية في بعض مناطق العالم، إلى مشكل أدهى منه وأمر هو إغراق السوق بما لا فائدة منه، بسبب التخلي عن الضمير وتكريس سياسة الاستهلاك والمادة بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة.

بحثت بتركيز -هذه الأيام- في هذا الموضوع وفي كل مرة أجدني جاهلا جهلا فظيعا، فالقضية جادة لا يرقى لها الهواة، والموضوع عميق أكبر من أن تحوزه أوقات الفراغ، هو تخصص قائم بحد ذاته، الداخل إليه حائر باحث عن الحقيقة، والخارج منه -إن خرج- أكثر حيرة وأشد أسفا، القضية لا تحتمل الاختيار أو التريث، كما لا تعالج بالعاطفة والانسياق وراء هبات موسمية ونزوات عابرة، بل هي قناعة ومبدأ وعمل متواصل.

غذاؤنا لم نعد نملكه في أيدينا بشتى المفاهيم والمصطلحات، فأمواج الحضارة الزائفة جعلت منا فئران تجارب نهوى المعلبات ونسعى وراء بريق السلع المغلفة تغليفا جميلا، تركنا ما في أيدينا من ذهب ورحنا نلهث وراء السراب، صرنا لا نؤمن إلا بما نستورد من الضفاف الأخرى دون تحليل ولا تمحيص، الذنب ليس ذنبنا في كثير من خيوط اللعبة، إنما رغم ذلك علينا بعض ثقلها، ونحن من نتضرر أولا وأخيرا.

الأمن الغذائي ملف حساس في الدول التي تحترم نفسها وتوظف إمكاناتها علميا في تسيير شؤونها، كما أنه قضية سيادة وأنفة، فالدولة كلما صنعت غذائها كانت أبعد من مستنقع المساومات والحسابات والمصالح، وإن نظرنا بسطحية عابرة وجدنا أنفسنا في أخصب أراضي المعمورة، وأوفرها حظا وفرصة لتأمين غذاء العالم بأسره، فما بالنا لو دققنا النظر، لنجد عالما متقدما مصنعا يوفر لنا أبسط ما نحتاج، الموازين انقلبت وصرنا نستورد بعدما كنا نصدر، لا لشيء سوى لاستكانتنا وقابليتنا للانقياد، وانهزاميتنا أمام قوة من بيده مقاليد العلم حسب تصورنا.

الإشكال أن من بيده زمام العلم لم تكن بيده مقاليد الأخلاق، فالله خلقنا وقدر لنا أرزاقنا وأرزاق كل من تطأ رجلاه هذه الأرض، إلا أن من أوتي قليلا من العلم -ولم يقر بذلك- أوهمنا بندرة الطعام وفقدانه عن قريب، وصور لنا مستقبلا أسودا غامضا، وأقنعنا رغما عنا باتباعه إن أردنا أن نشبع، وحول لنا بذهنيته الاستهلاكية المادية الصرفة أهم المفاهيم التي نشأنا عليها وحورها تحويرا مشينا قلب المعنى كليا فبعدما كنا نأكل لنعيش جعلنا نعيش لنأكل، ومن هنا كانت البداية.

الصناعة الغذائية والزراعة الصناعية بوجههما السلبي المادي المحض في يومنا هذا صارا أكبر مهدم لصحة الإنسان، وأفضل ممول للمستشفيات، وأقصر طريق للمقابر والعياذ بالله، فغياب الضمير واللهث وراء المال جعلا مخابر الشركات الغذائية تزكز جهدها في تسريع عملية الإنتاج وتضخيم الكميات على حساب الجودة الصحية والمنفعة الإنسانية، فكانت براءات الاختراع تمنح لمكتشفي المواد الحافظة والملونة، دون إدراك لوجود السموم في الكثير منها، حتى صار السرطان يحصد روحا في كل معلب تم بيعه.

لست هنا أرسم صورة سوداوية بغرض استعراض المعلومات فقط، إنما هي تذكرة لي ولكم، لنولي اهتمامنا بما نأكل ونغذي به أبناءنا وأسرنا، والأسئلة المطروحة عادة هي: ما العمل؟ ومن أين تكون البداية؟ وماذا نأكل إذن؟… إلخ، الأجوبة بسيطة في بعضها معقدة في البعض الآخر، فما هدم لسنوات لا يمكن بناؤه في أيام معدودة، فهنا دورنا ودور الباحثين المتخصصين ثم الوزارات والحكومات، هناك من تحرك وهناك من بدأ وهناك من لازال يغط في نومه العميق.

من الدول التي خطت خطوات جادة في المجال ماليزيا، فقد خصصت ميزانيات ضخمة في البحث العلمي الدقيق لتجنيب الإنسانية من خطر الغذاء المسرطن الموبوء، بمؤتمرات ومخابر بحث، وجامعات تجابه بذلك ثقافة الاستهلاك التي أفرزتها الرأسمالية الغربية المتوحشة، وتصدر الفكرة لمن يريد توظيفها في أرض الميدان.

ومثلما أخذت ماليزيا على عاتقها التمحيص في المخاطر الصحية للأطعمة المصنعة بطريقة سيئة، لديها أيضا دور جوهري فيما يخص حماية المسلمين من المزالق الشرعية جراء استهلاكهم لما ينتجه غيرهم دون علمهم، وبعيدا عن أنظارهم، ففي هذا التوجه نجد اليهود أشد حرصا على طعامهم، بما يملكون من منظمات ومؤسسات لهذا الغرض فقط، خاصة إن علمنا أن شريعتهم تقيدهم في المأكل أكثر من ديننا بكثير، والأصل في ديننا الحلية والإباحة إلا ما كان به ضرر وفساد والحمد لله.

من العلماء المسلمين الذين برزوا في هذا الاتجاه نجد الباحث الدكتور الجزائري باحمد ارفيس، المتخصص في الشريعة الإسلامية والعلوم الطبيعية وغيرها من الفنون والعلوم، فجاءت دكتوراه قيمة ثرية بعنوان: الأطعمة المصنَعة الحديثة بين التأصيل الشرعي والبحث العلمي،  وبحكم معرفتي له شخصيا -ولي الشرف- أجده يسحرني كثيرا بتواضعه وضلوعه في العلم، وهو الذي يترك أثرا بالغا طيبا في كل مجلس يجلسه وموقف يقفه، له صولات وجولات في الكثير من البقاع في العالم، باحثا عن الحقيقة محترقا لأجلها، يحزنه حال الأمة بما اجترحت من مصائب في حقها، يحذوه أمل كبير في التحسين والتطوير للأفضل.

الدكتور جميل القدسي دويك عالم آخر كان لي شرف معرفته عن قرب في الأيام القليلة الماضية، حمل هم الإنسانية بحكم مهنته في الطب، فكانت وفاة امرأة في مقتبل العمر بمرض السرطان صدمة له وإشارة قوية لينطلق في البحث عن الترياق في القرآن بعدما عجز الطب الحديث عن ذلك، فكانت له مغامرات حافلة في مجال التغذية الطبيعية، سماها في بعضها حروبا، اكتشف أسس الغذاء الميزان من القرآن الكريم ولا يزال، وكما أخبرنا فهو ببحثه الدؤوب يقع كل مرة على كنوز يستخرجها لينفع البشرية بها، خاصة إن علمنا أن الله في موضوع الغذاء يخاطب به الإنسانية ولا يختص بالمسلمين فقط، فأمانة على أعناقنا أن نبلغ ونعمل لخلاص الجميع.

الدكتور جميل جمع العلم والإيمان، فلا مجال لنفع أحدهما دون الآخر، وهو الذي يؤكد كل مرة ويدعو لعدم تفسير القرآن بالعاطفة، بل علينا أن ندقق وندرس مخبريا وعلميا، قبل أن نقرر إن كان هذا إعجازا أم لا، مبدؤه التغذية الطبيعية بعلمية وضمير، يدعو إليها وينبه للتدرج في ترك عاداتنا السيئة إن كنا ضحايا المعلبات والمصنّغ، له أنشطة مهمة ومجهودات معتبرة ونتاج إعلامي واعد، سواء القنوات الفضائية أو موقعه على النت.

نداء لدولتنا أن ترفع عنا الحرج في غذائنا، فمثلا في موضوع الأجبان نجد المنتشر منها في دول الخليج وحتى الجارة المغرب هو المصنوع بالمضافات المشتقة نباتيا عوض الحيوانية مما يشتق من الخنزير عادة، فالنباتي هو الأفضل صحيا والأصح شرعا، وهذا بحكم إلزامات تفرضها حكوماتهم على المستثمرين حماية ووقاية لشعبها، وكذا في أطعمة ومضافات أخرى، مع ذلك هناك خطوة جيدة نحو الأمام قامت بها وزارة التجارة الجزائرية قبل أيام، بمنعها استيراد قائمة طويلة من المواد المضرة، وأول الغيث قطرة، فنرجو المزيد.

في أوربا وأمريكا هناك جمعيات ومنظمات مناهضة للأطعمة المسرطنة، تفرض قوتها على الحكومات فتقوم بسحب منتوجات من الأسواق ثبت ضررها الصحي على الناس، ووصلت لدرجة فرض مساحات معتبرة في الأسواق للطعام الطبيعي رغم غلائه مقارنة بالمصنّع، والظاهرة آخذة في الانتشار، بينما للأسف هي لدينا في انحسار، نستورد أطعمة مصنعة منهم، وهم يستوردون منا الطبيعي، ولمن يود التوسع في الموضوع فليسأل عن الطائرات التي تطير محملة من بسكرة وما جاورها نحو فرنسا، والحقول الغنية الشاسعة في تونس والتي تصدر نحو أوروبا.

مع كل هذا نجد أنفسنا أمام أوهام بضرورة استهلاك المعلبات والخضر المعدلة جينيا، فسوقنا والحمد لله لازالت تزخر بالمنتوج الطبيعي وبوفرة والحمد لله، لكنه في تناقص إن لم ننتبه، وما دمنا نشرب الحليب الطبيعي ونأكل التمور بأنواعها، ولحم الأسماك بأحجامها، ونستهلك فواكه محلية بألوانها، لازلنا بخير، أما ما أمكننا الاستغناء عنه ففي فائدتنا ومصلحتنا، وإلا فلنحاول… فالطعام الطبيعي كان محتوما على أجدادنا، فلنجعله ثقافة لنا.