تأمّل حوارات من حولك ونقاشاتهم، حلّل خطاباتهم واهتماماتهم تلقى منهم أنواعا وأصنافا، فالواحد منهم متعلّق بأسماء معيّنة يذكرها مرارا ويجعلها محور اهتمامه، والآخر همّه ملبسه ومركبه، راحته وحقوقه من الأمور الماديّة، أمّا ثالثهم فحديثه عن الأفكار يضعها غالبا موضع بحث واهتمام، وبين هؤلاء جميعا تجد تداخلا وتمازجا، فلا فصل بين الوجوه الثلاثة إنّما العبرة بالوجه الذي يأخذ منّا حصّة الأسد اهتماما وتركيزا.

المفكّر الكبير مالك بن نبي رحمه الله أبدع فعلا في تفصيل نظريّته عن العوالم الثلاثة، ورتّبها نزولا بعالم الأفكار فعالم الأشخاص وأخيرا عالم الأشياء، والعقول كلّما سمت ناقشت واهتمّت بعالم الأفكار، وكلّما هوت كانت لعالم الأشخاص وأدنى منه الأشياء، فلا ننشد حضارة ولا تغييرا إن نحن لم نعالج القضيّة في مستوى الأفكار.

أيّما حضارة هيمنت وتألّقت بعالم الأفكار كانت أسمى وأرفع ولا خير من الحضارة الإسلاميّة في أوجها، وأيّما أخرى نزلت للحضيض كالتي اهتمّت بعالم الأشخاص فنصّبتهم آلهة معصومين، وفرضت منطق القبليّة والجاهليّة على الكفاءة فكانت ذليلة في أسفل الأسفلين، أمّا السقوط لعالم الأشياء فتلك مصيبة المصائب ولا أدلّ عليها ما يحدث في عصرنا، فبشيء من التأمّل واختبار ما حولنا نجد الأمثلة والشواهد.

اجعل لعقلك نصيبه الأكبر في عالم الأفكار تنقدها وتحلّلها، تستفيد منها وتمتثل للأفضل والأصلح فيها، ودع عنه التمسّك بالأشخاص لحدّ العبادة والتأليه، ولكن دون التجرّأ عليهم وإهدار كرامتهم واحترامهم، أمّا عن الأشياء حولك فلا تولّي لها أكبر من قدرها اهتماما ولا زمنا، اجعلها بقوّة فكرك مسخّرة لك لا مسخّرا لها، فما أهلك الناس إلا تعلّقهم بالأشخاص والأشياء دون الأفكار.

شخصيتك، أسرتك، فريق عملك، مجتمعك، دولتك…إلخ، كلّها دوائر تصلح فيها النظرية وتجري عليها، فكلّ ممّن ينهض ويستنهض الهمم نحو عالم الأفكار.