يعيش بعض وطني هذه الأيام أجواء الفرح في ظاهره، فيما تخيّم على جزء من أبنائه علامات الحزن وعلى جزء آخر بوادر الحيرة، بل وحتى اليأس عند فئة أخرى، هذه الأحاسيس والمشاعر ترجمتها جملة الظروف التي نعيش، فلا نكاد نحسّ بشيء من التفاؤل إلا ونصدم بواقع مرير.

مقدمة من هذا النوع تجس نبض الموضوع بلا شك، وقبلها عنوان ينمّ عن استياء دفين إن نحن فسّرناه على نحو السؤال الإنكاري، أما إن أخذناه بمنحى الاستفسار فلأنني أعز وطني وأحبه، ونفس الشيء بالنسبة لأبناء وطني صغيرهم وكبيرهم، نسائهم ورجالهم، الذين يعيشون فيه ومن ساقته مشيئة الله لينمو خارجه، حالما بالعودة إليه يوما والتنعم به وهو أكثر شبابا وأفضل حالا وأرقى مثالا.

اليوم تحلّ علينا الذكرى ال 49 لعيدي الاستقلال والشباب، مناسبة جمعت أهم مناسبة في تاريخ الجزائر مع أهم وأغلب فئة من فئات الشعب، فهنيئا لنا استقلالنا ذات يوم من يد مستعمر سعى ليدمّر العقول والأفكار، إلا أنه شيّد ما لم يحسن مَن بعده حتى المحافظة عليه فضلا عن التحسين والزيادة فيه، وهنيئا لنا رجالا لازلوا لحد اللحظة رموزا نذكرهم كل عام ومطلع كل مناسبة وطنية آثروا الموت لتحيا الجزائر، هم مليون ونص مليون شهيد، رووا بدمائهم أرضا صارت بعدهم حرة بفضل الله، ولكن أية حرية؟

حرية فرح لها الجزائري وكل إنسان سوِي لا يرضى الظلم لنفسه ولا لغيره، إلا أني أراها فرحة لم تدم طويلا، حتى صرنا في عداد شعب يتباهى بتاريخه وفقط، لم يبن مجدا له ولم يجعل لنفسه ذكرا لمن بعده، فالأجيال منذ ستينيات القرن الماضي إلى حد الآن تتفاخر برجال الخمسينيات، فمن ياترى سيتباهى برجال الستينيات والسبعينيات والألفينيات؟ ماذا قدمنا ليشعر من بعدنا بما نشعر به حيال من سبقونا من ستين عاما؟

لا أنكر فضل رجال عاشوا تلك الفترة وأناروا دروبا كثيرة لولاهم لكنا بدين آخر، وبهويّة مخالفة تماما، فحقا واصلوا الجهاد وحملوا لواء الإصلاح، منهم القائد والمعلم والشاعر والأديب والمفكر، هم عيّنات كابدوا وحمّلوا ممن حولهم فوق طاقتهم، فلم يبلغوا أهدافهم كلها، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.

جميل أن نحتفل بعيد الاستقلال، إلا أن الأجمل أن نسأل أنفسنا عن كيفية الاحتفال، هل بحفلات ماجنة لفناني الخمور والرقص؟ – وهذا ما يحدث اليوم – بدعوى أن الشعب مهموم ويحتاج لمن يسليه؟ ألا نعلم أن تلك الأشياء ماهي سوى هموم فوق الهموم؟ هل يحق لنا الاحتفال ولم نعي تمام الوعي من نحن؟ ولم نعرّف ثقافتنا فاختلفنا ولم نعد نميّز الخبيث من الطيّب؟ هل يجدر بنا أن نحيا في بلد كله معجزات نائم على خيرات الكون دون أن تكون لنا سلطة ولا حنكة بل نصنّف كعالة على العالم، يشفقون علينا ويصرفون لنا ميزانيات الدعم والإغاثة؟

فيا شباب وطني ليكن شعارنا أن نكون أو لا نكون، لا نتعلق بأمجاد لم نصنعها، نعم نعتز بالشهداء ولا ننكر فضلهم، لكن نتوقف هناك، وليسأل كل منا نفسه: ماذا فعلت أنا؟ وماذا يمكن أن أخلّد من ذكرى لمن بعدي؟ وهل فعلا أجسّد رسالة نبيلة؟ تلك الرسالة التي بذل في سبيلها أجدادي أرواحهم، وحينما نقول أرواحهم فهذا بحد ذاته أغلى ما يمكن أن يهبه إنسان لنيل غايته.

شباب الجزائر نريد أن نكون صانعي قرارنا، بأيدينا وفكرنا لا بإملاء غيرنا، نعم علينا أن نستشير ونقتبس ونتبادل ونطّلع، لكن في الأخير القرار قرارنا، فنحن أدرى بما يصلح لنا، فلا خير في لقمة لم ننلها بعرق الجبين، ولا فضل في إنجاز جاء صدفة ولو كان في صالحنا، فنحن رجال إن أردنا ورضّع إن شئنا.

ما أحوجنا في عيدنا إلى العمل معا لأجل وطن أفضل، بروح واحدة، وأهداف متحدة، لا مجال الآن لاختلافات جانبية عرقية كانت أو جهوية، فلا أنت ابن الصحراء ولا هو من الشمال، ولا نحن شرقيون ولا هم غربيون، اختلاف الألسن والألوان والأفكار آية من آيات الله، وكلنا بذلك نشكل أبناء وطن واحد، نرفع علَما واحدا يتقاسم اللونان الأبيض والأخضر مساحته وتسِم النجمة محاطة بالهلال مركزه.

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّرا ***** وإذا افتــــرقن تكسرت أفرادا

ما أكبر حاجة الوطن إلى شباب يرفع تحديات كبيرة بالعمل لا بالكلام، بالعلم لا بغيره، فصاحب القلم يحفر في زاويته، وذوو الرأي يلهمون بأفكارهم، ومن أوتى ملَكة النظر البعيد وحسن القرار فمكانه محفوظ وإن لم يجده فليوجده (إن لم تجد الظروف الملائمة لك فاصنعها)، الفيصل في الأمر هو حب الوطن والعمل بإخلاص، فالإخلاص عملة نادرة قلّت في زماننا، إلا أن جذوتها لازلت حية تنبض، فلنقوّها ونعزّزها ونعلي من شأنها.

رقيّ وازدهار الوطن يكون بالتركيز على مواطن الاتفاق وما أكثرها، ونبذ مواضع الفُرفة والاختلاف وما أقلّها، يكون بعدم تخوين إخوان لنا، ولا اتهامهم بسوء النوايا إلا بوجود بيّنة مسكتة مقنعة، فالعمل في هدوء يلزمنا في ظروف، والجهر في ظروف أخرى، والإحسان والإتقان دائما هما أساس كل نجاح.

وطننا ليس بذلك الوطن السيء الذي ندعو لحروب من أجل استقامته، فالاستقلال بلغناه وإنما علينا التخلّص من بقاياه بشيء من الحكمة والفراسة، والنظر لما امتلأ من الكأس والعمل في سبيل امتلاء ما بقي، نعم العراقيل كثيرة والواجبات أكثر، فما عسانا نفعل هو وطننا الوحيد ونحن أبناؤه ولا حل لخلاصنا إلا بأيدينا وفكرنا وتوفيق خالقنا جل وعلا.

في الأخير عليّ أن أضيف كلمة سقطت من العنوان وما كان ليؤدي دوره دونها فأقول: أي وطن وأي استقلال وأي شباب نريد؟