تمر لحظات حياتنا نستوعب منها دروسا، نبني فيها تصوّرات، ونتخذ على ضوئها الكثير من مواقفنا تجاه ما يجول ويصول حولنا، ومن أمثلة هذه اللحظات أوقات نقضيها في حافلات النقل العمومي إذ تكون مليئة بالمفاجآت التي عادة ما تتميز بالطرافة والغرابة مع ما يمتزج بها من عبر ودروس.

جرى في عرف الناس أن استعمال حافلات النقل الجماعي المعروفة بالتدافع من ركابها، مما يتم اللجوء إليه في حالات نادرة حينما تنقطع السبل الأخرى، أو تكون مما هو متوفر دون احتمال آخر، فمساوئها كثيرة وسلبياتها أكبر من أن تحصر، إلا أنها لا تخلو من متعة خاصة، لو أخذناها من باب التأمل واستلهام العبر مما نعايشه فيها من تنوع في صفات الناس وطرق تفكيرهم ونظرتهم للأمور.

فإن كانت هنالك حكومة، وبرلمان خاص بمن يحسن اللعب على أوتار العواطف وفن الوعود المزيفة للناس كل خمسة سنوات ليتبوّأ مكتبا دافئا وسيارة فارهة يركنها في موقف خاص محروس ومجانا، مع أجرة خيالية جزاء رفع يديه، -وهل يحسن غير ذلك؟-، هذا في غالب الأمر، فيما هناك النادر من الشرفاء من يقوم بأعمال جليلة لا يعلمها إلا الله، لكن اليد الواحدة لا تصفق كما يقال، مع كل هذا هناك أيضا برلمان آخر يمكن لأي كان أي يسهم فيه لا يحتاج إلا لقليل من المال إن توفر، وإن لم يكن فليست هناك مشكلة.

الحياة داخل حافلات النقل الحضري لقصرها إلا أنها حبلى بكل جديد منه المبشر ومنه المؤسف، فيها ما يضحك ولا تخلو مما يندى له الجبين، يكفي أن تجلس –أو تقف- وتتأمل في الركاب باختلاف جنسهم وطباعهم ومستواهم الثقافي والاجتماعي، وذلك الخليط يضفي لها جوا خاصا، فتلك حوارات تبدأ بين اثنين إلى أن تصل لحديث جماعي لكل من في الحافلة، وتلك مشاداة كلامية يتوسط فيها العقلاء وعادة ما تكون شرارتها من أتفه الأسباب، ذلك داس -أو كاد- على رِجل ذاك، وآخر لمس جزءا من شعره الذي أمضى وقتا طويلا في تسريحه وهو مركّز على صورة قدوته سواء كان لاعبا أو راقصا عوض المرآة!

أما عن قصة البرلمان فتتجلى في طبيعة الخطابات والحوارات التي يتضمنها، فكل ملفات الدولة المصيرية أو البسيطة والتي تناقش على مستوى مجلس الوزراء لها مكان هناك، بداية بالتذمر من زحام السيارات، وصولا للسكن، ثم العمل، دون إغفال الإغراق في المقارنات مع بلاد آخرى فهي المثل الأعلى في كل خير –حسبهم- فيخطر ببالي لو أن الحكومة أرفقت بكل حافلة جهاز تسجيل فتوفر لنفسها عناء المشاورات لبدء حزمة الإصلاحات التي سمعنا عنها من شخصيات تجلس على الأرائك وترتشف القهوة، فحديث الشعب في الحافلات أكبر بنك للأفكار والاقتراحات يمكن أن تستفيد منه الحكومة!

للرياضة أيضا مجالها الخصب، فكم للحافلات من فضل في تخريج أفضل المدربين لو علم الناس، انتقادات واقتراحات وتحليل فني يفوق مستوى استوديوهات الجزيرة الرياضية بأضوائها وحصرياتها، حتى أنك تسمع عبارات مثل: “لو كنت مكانه لفعلت كذا وكذا…”! أما قضية الثورة في الجزائر فخط أحمر ووجبة دسمة كثيرا ما وصلت لحدود التعارك والتشابك، أما الحديث عن دور ومكانة الرئيس الذي هو لغز لحد الآن -على فكرة أحترمه كثيرا- فهنا النساء والشباب أكبر المدافعين عنه واللوم غالبا متاح من مستوى الوزير الأول نزولا لأبسط مسؤول، بل في الأخير نجد أن الشعب يلوم بعضه بعضا لكل تقصير!

بل أكثر من ذلك فيمكننا أن نطلق على كل حافلة لدينا مجلس الأمن، أو اجتماع القمة العربية، أو إحدى جلسات الأمم المتحدة حين تقرر الدول الأعضاء مصير دول بأكملها، فحديث عن الربيع العربي لا يخلو، كما كل أزمات العالم تطرح هناك، وهذه ظاهرة صحية في منطلقاتها من باب “من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منا” لكن الخلل يكمن في طريقة معالجة تلك المواضيع علما أن لكل خلفياته، فالشباب من الفيسبوك، والشيوخ من الجزيرة والعربية وبعض المشاركين من Euronews أو France24 أو… حتى الشروق والخبر وأخواتهما لهن بعض النصيب!

أوجه التشابه كثيرة بين الحافلة كبرلمان للشعب حقيقة وبين البرلمان المتعارف عليه، فكلاهما يستلزم التدافع للفوز فيه على مقعد مع اختلاف الآليات طبعا، ومعا كذلك يضمان من هب ودب، من مثقفبن وأميين، أغنياء وفقراء، وكذا معا يشكلان فضاء لمناقشة قرارات ومشاريع قد سبق واتخذت الطريق للتنفيذ دون أية قدرة على التحكم فيها، الفرق بينهما أن الأول قار والثاني متنقل من موقف إلى آخر، أما وجه الاختلاف الجائر فهو أن الأول تتلقى جزاء مشاركتك فيه أموالا طائلة، بينما الثاني أنت من تدفع!، وجه الشبه في القضيتين أن أجرتك في الأول تصلك حيث أنت، فيما يأتيك من يستخلص منك حق المشاركة في الثاني حيث تكون أيضا!

النقل الجماعي نوع من الفسحة التي توفرها الدولة لشعبها كي يتجولوا ويستمتعوا بجمال المدن وروعة مناظرها، فالمسافات مهما قصرت إلا أن الرحلة طويلة وشاقة إما بسبب الزحام أو فترات الانتظار الطويلة في المواقف كل مرة، حتى تفضل أحيانا أن تستأذن السائق في النزول والمشي راجلا كنوع مفيد من الرياضة.

تقرأ في محيا كل راكب علامات الرضا أو الأسى عن يومه، ترى في الوجوه نظرة الأمل أو اليأس، فكل أطياف المجتمع تركبها تقريبا إلا من منّ الله عليه بوسيلة أرقى وأفضل، مع ذلك أحيانا تجد من تستهويه الحافلة رغم امتلاكه السيارة، فإما كانت معطلة حينها أو رأى من الأصلح له الدخول في مغامرة الحافلات لأسبابه الخاصة.

وفي حافلة النقل الجماعي فصل آخر من التأمل، فأخلاق الناس تختبر فيها أيضا، ومما لا حظته بعيني في هذا أننا لازلنا والحمد لله نتوفر على قدر كبير من الاحترام فيما بين الناس، فأعراف واضحة هناك لا نقاش فيها كترك المجال للكبار أو النساء، وفضائل أخرى كالتناصح والتنازل والنهي عن المناكر التي تصدر أحيانا من هنا وهناك، إلا أن الوجه الآخر فيها لابد أن يكون، لسبب بسيط هو اختلاف معادن الناس، والحافلة ملتقى الجميع، فأحيانا عليك بتغيير المنكر بيديك وأحيانا أخرى بلسانك وتارة بقلبك، الحكيم من عرف كيف يتصرف التصرف الأمثل في الوقت الأنسب.

 كإشارة ربما لاعتقاد متداول بيننا -بفعل تراكمات- كوننا في زمن لا نرى راكب الحافلة منكبا على كتابه إلا هناك في بلاد أخرى، إلا أن الحقيقة مغايرة وإن كانت بنسبة كبيرة للجرائد، أما مطالعة الكتب فرغم ندرتها إلا أنها متوفرة، وقد رأيت شبابا يتناولون كتبهم في صمت وتركيز، وهذا أفضل تصرف حينما يكون الشخص وحيدا دون مرافق، وعوض الاستغراق في ملاحظة من حوله وثقبهم بنظراته يصير كتابه أفضل أنيس وبديل، خصوصا لو علمنا أن عددا من حالات العراك كانت بدايتها نظرات يفهمها طرف بشكل خاطئ فتقدح الشرارة، مع أن هناك شرطا ضروريا لتنعم بقراءتك لكتابك في أحسن ظرف هو الجلوس، فالواقف يجب أن يصبّ كل انتباهه في جيبه ومحفظته ممن همّه جيوب الناس وأموالهم وهواتفهم حتى! وهم متوفرون في معظم دول العالم بمسمى [Pickpocket].

أصل الحكاية أني قد بدأت من فترة باستعمال الحافلة بشكل شبه يومي كوسيلة للكثير من تنقلاتي برفقة صديق سألني مرة عن المدونة ومصدر الأفكار التي فيها، فأجبته أني من خلال احتكاكي بمن حولي أستلهم المواضيع التي تستفزني للكتابة حولها بعد بحث بسيط، مع التركيز على تسليط الضوء على الفائدة من وراء ذلك، فلا أهوى الكتابة لمجرد الكتابة، إنما هدفي من وراء ذلك الإفادة وتقديم الإضافة في كل ما أتناول، والله أسأل العون والقبول.

  • إن كنت من مستعملي حافلات النقل العمومي، فما قصتك معها؟ صف لنا تجربتك؟