عندما رأيت الكتاب لأول مرة في رفوف إحدى المكتبات التي أزورها باستمرار في سلطنة عمان، أثار انتباهي العنوان The Cyber Effect، وبما أنه من صلب اهتماماتي قررت اقتناءه مع بعض العناوين الأخرى في نفس السياق، وقد كان توقعي في مكانه، كواحد من من أمتع الكتب التي رافقتني أيام الحجر المنزلي في الجزائر، وفيه أبدعت الكاتبة ماري أيكن في سبر أغوار النفس البشرية بألوانها وأصنافها وعلاقتها بالإنترنت بما سمته “علم النفس السيبراني”.

كتاب يجعلك تنظر للظواهر النفسية بعين العلم، وترى للسلوك البشري الاجتماعي بعين الفهم، قبل إطلاق الأحكام الجاهزة وتوزيع التهم وتقرير الخلاصات وحسم المسائل ببساطة وجرة قلم، هو من بين الكتب التي تتطلب وعيا ونفَسا طويلا لقراءتها (حوالي 440 صفحة)، وليس كتاب مطالعة واسترخاء، حتى أنك كقارئ قد تقرر في لحظة ما وتتمنى لو أنك لم تقرأ ولم تفهم بعض الأفكار الواردة فيه، ومن أهم ما وجدت فيه كانطباع عام بعد استيعاب الكثير مما جاء فيه هو سؤال: متى تواجه نفسك وتكف عن ممارسة الهروب للأمام أيها الإنسان؟!

رأيت من الصواب أن أطلع كذلك على مراجعات القراء لأبني صورتي الخاصة عن الكتاب، فقمت بقراءة الكثير من الانطباعات المتضاربة في منصة Goodreads، بين من يمنح الكتاب العلامة الكاملة، وبين من مسح بمحتواه الأرض مسفها مقللا من شأن الكاتبة أيضا ومشككا حتى في كفاءتها وشهادتها الأكاديمية، وهذا ما فاجأني حقيقة، فالنقد هناك صارم جدا ولا مجال فيه لأي مجاملة بالنسبة للقارئ الإنجليزي، ولو أن الملاحظ هو التحامل والبعد عن النقد الموضوعي خصوصا من أصحاب التخصص، وهي ظاهرة ملاحظة حتى في شبكات التواصل الاجتماعي، فالغيرة القاتلة بين المتخصصين في نفس المجال لا تفسر إلا من باب ضعف الإنسان وميله نحو شخصنة الأمور وصبغها بالذاتية من باب تحقيق الذات، وهو ما حدث في مواقف كثيرة حتى تجاه علماء كبار أثبتوا كفاءتهم إلا أن لكل إنسان من يعجب به لحد الانبهار، ومن يتحفظ منه لدرجة الاحتقار، ولكل مبرراته التي يصفها بالعلمية والموضوعية.

نعود للكتاب وما جاء فيه من أفكار رئيسة وفرعية، وقد وفقت الكاتبة الدكتورة ماري آيكن Mary Aiken في تبسيط الموضوع بشكل واضح لمن يقرأ عن المجال من خارج تخصصات علم النفس وعلم الاجتماع وكذا عالم التحقيقات في الجرائم والأمن السيبراني، وقد انطلقت من وصف التغيرات التي طرأت على البشرية في فترات معينة من التاريخ كالثورة الصناعية، وما حدث في عصرنا في ظل الثورة الرقمية، وما تتعرض له الأجيال الناشئة من سلبيات وتحولات خطيرة في السلوك جراء الاستخدام الخاطئ للإنترنت، وما بنجر عنها من ميل نحو الفضول وحب الاستكشاف.

تطرح الكاتبة فكرة مهمة جدا هي إتاحة الفضاء السيبراني (الإنترنت) لمساحة التقاء واحتكاك مباشر بين مختلف أصناف الناس دون حواجز، سواء من ناحية الأعمار أو المستوى المعرفي أو الجنس أو حتى درجة السلمية مقابل فئة تمتهن العنف وهم ما يسمون بالفئات الخطرة، مما يجعلنا أمام عالم متوحش تحكمه قوانين القوة ولا مجال فيها للغفلة والسذاجة، عالم تحكمه رغبة مسعورة بالتوجه نحو أحدث التقنيات بغض النظر عن أعراضها وآثارها الجانبية، مما يعكس واقعا غريبا تتغير فيه سلوك الناس ومشاعرهم وقيمهم بشكل جذري بينما هم يسبحون في الإنترنت، مما يعرضهم للتحرش والابتزاز والإباحية والعنف ومحاولات الفرصنة الفكرية والمعرفية، إلى احتمالات الإدمان على الإنترنت، وهي صورة أقرب للإنسان الآلي الذي نشاهده في أفلام الخيال العلمي.

تناولت المؤلفة موضوع الخصوصية وكيف أننا من خلال إبحارنا في الإنترنت نكون أكثر قابلية لمشاركة أسرارنا وتفاصيل حياتنا ويومياتنا مع الغرباء، بشكل مضاعف مقارنة بما نفعله في الواقع، وهو ما فسرته بحالة ذهنية ترتكز على الإحساس بعدم التحفظ، ولا يخفى علينا ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي من تواصل خاص وعلاقات متعددة غير سوية تنمو وتختفي بشكل مفاجئ تؤثر نفسيا وبشكل عميق وتؤدي إلى اضطرابات السلوك وحتى الدخول في حالات اكتئاب، تؤدي بدورها للبحث عن معلومات تتعلق بالصحة النفسية بشكل مهووس يفسره المختصون بالوسواس.

الجميل في الكتاب هو احتواءه على قصص وأمثلة تقرب الفهم وتشرح الأفكار بشكل سلس مبسط، مثل مشهد تلك الأم التي رأتها المؤلفة في إحدى القطارات وهي تطعم ابنها الصغير بيد بينما الأخرى تحمل هاتفا ذكيا قد أخذ كل تركيزها، وهنا اكتشتفت أن الأمر بلغ درجة خطيرة من التسيب والإهمال باعتبار أن التواصل والتفاعل بالعينين وحركات الوجه أثناء الإطعام يعد عاملا أساسيا في نمو الطفل بشكل حميمي طبيعي، وهنا ضيعت الأم على طفلها حقا مهما، بهوسها بالشاشة، وهي بلا شك ستواصل تهديم ذلك النمو بوضع ابنها أمام التلفاز أو الجهاز اللوحي للتخلص من شغبه عندما تصل إلى البيت.

في الأخير يمكن القول إننا أمام عالم غريب متقلب، ليس علينا الخوف من ذلك والانسحاب طبعا، بل نحن ملزمون بالوعي والفهم ثم التصرف وفق ذلك، وإن كانت الكاتبة قد اقترحت حلولا سياسية أحيانا أكثر منها علمية، فإني كقارئ أحتفظ بحقي بتبني أي فكرة أو رفضها، ولا يقلل رأيي من شأن الكتاب، وإنما يجعلنا ذلك دائما أمام مسؤولية البحث والعمل الجاد على الوصول للحقيقة وهو ما لا يتاح في صفحات كتاب واحد، أو من خلال طروحات شخص واحد، والعلم تراكمي لا يخلو من التحيز والخلفيات الفكرية، وإن وجدت بعضا مما جاء في الكتاب معلوما عندي سابقا من مصادر أخرى إلا أني استفدت منه كثيرا، وهو ما فتح لي آفاق البحث أكثر في الموضوع.

https://www.facebook.com/jaber.hadboun/posts/10221415770817051