مع الحلقة الخامسة من حلقات الخواطر المغربية، أصل بكم إلى آخر المشوار، وأختم سلسلة المقالات بما عشته في مدينة الدار البيضاء (كازا بلانكا) الرئة الاقتصادية للمغرب، والمدينة الحيوية ليلا ونهارا، فقد كان لي فيها يومان رائعان حقا، وقفت فيهما على العديد من المشاهدات ووجدت فيها نفَسا مغايرا نوعا ما عن الرباط.

الدار البيضاء (Casablanca) هي المدينة التي نزلت فيها أول يوم من زيارتي للمغرب، إلا أني مررت بضواحيها متوجها مباشرة بالقطار إلى الرباط ، مما ترك لدي انطباعا ناقصا عنها أول الأمر، فالقطار بمروره خارج المدينة جعل أولى النظرات لمدينة بحجم الدار البيضاء توحي بتواضع إمكاناتها، خاصة مع البيوت الهشة المترامية هنا وهناك، مع بعض الاستثمارات السكنية الراقية والتي يحاط أغلبها بجدار وحراسة خاصة، تفصل بين فخامتها وحقيقة الفجوة الكبيرة مع ما في خارجها.

هي كانت أولى الانطباعات عن كازا، مع أنها لم تتغير كثيرا بعد عودتي إليها ثانية عند اكتمال الجامعة الصيفية، فالإنسان فيها يبقى حائرا من جملة المفارقات الظاهرة للناظر في مستوى العمارات والبنايات، إذ تجد الطبقية تصرخ بأعلى صوتها وتفرض منطقها بكل ما أوتيت الكلمة من معنى، وحين التساؤل عن هذا الوضع يخبرني من أسأل أن الوجه الحقيقي للمغرب ليس هنا، إنما في مدن أخرى كأغادير ومراكش وفاس وإفران وغيرها.

في حقيقة الأمر هذا التبرير لم يعجبني ولم يقنعني، رغم أني أتحدث عن واقع حتى في الجزائر نعيش مثله تقريبا رغم بعض الفارق الواضح، فهنا نحن في مدينة بمرتبة العاصمة، بل الأكثر من ذلك عاصمة اقتصادية، مما يعني أن بنيتها التحتية يمكن أو ينبغي أن تكون أفضل مثلا، وكذا فرص العمل تكون أوفر كذلك… إلخ، ويبقى عزاء المغرب في طيبة ناسها ونقاء قلوبهم، وما دام الإنسان فيها كذلك، فهناك خير إن شاء الله.

أخدنا نتجول أنا ومرافقي داخل أحياء المدينة القديمة وهي أجمل ما بقي في هذه المدن التي غزتها حضارة غير مكتملة في مقوماتها، فلا هي حافظت على ريفيتها وعفتها، ولا هي اكتسبت آليات ووسائل الحضارة المساعدة على ممارسة شؤون الحياة بشكل أفضل، وهذا حال الكثير من المدن في العالم العربي، وأسباب ذلك كثيرة إلا أن المقام هنا ليس مقام ذكرها.

من جملة المشاهد الجميلة التي شعرت فيها بأصالة المغرب أولى لحظات فتح المحلات صباحا، إذ بعد عملية التنظيف والترتيب الروتينية للمحل، يجلس صاحبه شابا كان أو كهلا في المدخل على كرسيه الصغير ليبدأ رحلة الاستمتاع بفطوره الشهي التقليدي، وهنا استحضرت تلك العادة الغريبة من التهام للطعام بطريقة الوجبات السريعة التي غزت العقول وصارت منطق العصر، بالأكل وقوفا لقطعة خبز محشوة لا تسع الفم إلا بفتحه كليا، وكل هذا بذريعة العمل وضرورة السرعة، مما أفقد المعنى وكرّس ذهنية الاستهلاك دون أي روح أو متعة.

أما ما رأيت هناك فهو مشهد آخر، إذ يجلس ذلك الشاب بهدوء دون منغصات مادام المحل خال من الزبائن صباحا، فيستغل الفرصة ليأتي له فطوره من محل مجاور أو قريب كما جرت العادة لديه ليحصل على صينية تحوي كأسا وإبريق شاي أخضر بالنعناع على الطريقة المغربية، مع خبر تقليدي أو نوع يسمى (المسمن) وصحن صغير من المربى وآخر من الزبدة، هي لقطة كثيرا ما سحرتني ولم يهدأ لي بال حتى جربتها لما كنت في الرباط.

أما عن أشهر المزارات في الدار البيضاء فهو مسجد الحسن الثاني الذي بني بطريقة جذابة وهو يطل على البحر، فأخذ شكلا جميلا جدا يأسر الناظر إليه عن بعد، لكني حين اقتربت منه صدمت من كثرة الحواجز والممنوعات التي وضعت فيه، بالإضافة لعدم فتح أبوابه إلا أوقات الصلاة، مما خيب ظني كثيرا، وكانت الخيبة أكبر حينما رأيت زوجان أوروبيان يستنكران هذه الفرصة، فتساءلت لماذا تبنى هذه المساجد؟ أللمباهاة والأرقام؟ أم لغرض التعبد وتقديم الصورة والانطباع الجيد لغير المسلمين؟ لم أجد هناك ما يدعو لهذا صراحة، خصوصا لما علمت بأن على الزائر أن يدفع مبلغا معتبرا كي يحظى بجولة فيه، فانظروا هذا دين الله يباع!!

بعد المسجد توجد الواجهة البحرية المطلة على المحيط الأطلسي بشواطئها ومركباتها ومنتجعاتها السياحية، والتي يمكن الاستمتاع بمشاهدتها مجانا، إلى أن ينتهي المسار إلى المركز التجاري الكبير Morocco mall، والذي يعج بزواره من المغاربة وكذا الأجانب، إذ يلاحظ هناك كثرة الخليجيين والأوروبيين، ممن يختار المغرب كوجهة سياحية مفضلة.

ومما استوقفني لدى مروري مشيا بتلك المرافق السياحية التي جهّزت بعناية واحترافية عالية، تلك اللافتات الإعلانية الكبيرة للسهرات الغنائية الصاخبة أو الهادئة، والتي تحمل صور مغنيين جزائريين بشكل كبير، ولدى حديثنا مع بعض الشباب نراهم يفتخرون باستضافتهم لتلك الأسماء الثقيلة في نظرهم، ويتشرفون بإحياء ليالي رمضان معهم بحفلات الرقص والشرب والمجون، ويستغربون من عدم تقديرنا لهؤلاء وهذا الفن في الجزائر! في قرارة نفسي أقول: هداكم الله وفرج عنكم، فلا حاجة لنا بهم لدينا، ولولا توفر الموارد الأخرى لكانت الجزائر مثلكم أو أكثر، فحفظ الله لنا تلك البدائل على الأقل لرد مثل هذه المشاهد عنا.

طبعا لا أقول إننا لا نملك في الجزائر هذه المظاهر إلا أن الفرق واضح جدا، فهنا من أراد عيش تلك الأجواء عليه أن يقصدها لأمكنتها المخصصة لها وهي موجودة، ولكن هناك تجد الاستثناء فصبغة البلد السياحية تفرض نمطا معينا من العيش، إذ لا حديث عن المبادئ والقيم في حضرة المصلحة المادية الاقتصادية، وهذا الخطاب تسمعه حتى من الملتزم نفسه، والأدهى من ذلك والأمر أن يقول لك أنت لم تر شيئا، فأضعاف هذا موجود في مدن أخرى تعتبر ذات تخصص سياحي محض كمراكش وأغادير!

لا أريد أن أرسم صورة قاتمة للمغرب بهذه الخواطر، إلا أن الحال نفسها في الدول التي تعتمد على السياحة بمفهومها الضيق المستورد شكلا ومضمونا، كتونس ومصر، وعلى من يتبنى الخطاب الديني أن يوجد البدائل الناجعة الفعالة عوض الإنكار للفكرة جملة وتفصيلا، فالمسألة تحتاج لتفصيل أكثر وليست حبيسة الحلال والحرام وسؤال المفتي فقط!

ليل كازا في وسط المدينة شاعري وحيوي، إذ تمتلئ الساحات بالناس أسرا وأفرادا، منهم من يتجول لقضاء مآرب له لم تسنح له ظروف عمله صباحا لإتمامها، ومنهم من يستمتع بنسيم الجو اللطيف، ومنهم من يفضّل عشاء على الهواء الطلق في إحدى شرفات المطاعم المنتشرة بكل المستويات والأنواع، مما يمنح ارتياحا في نشاط المدينة ليلا ونهارا، وهذا ما نصبو إليه في الجزائر حاليا.

ومع آخر لحظاتي في المغرب والانطباع الطيب الذي تركته لدي من أبنائها، من علمائها، من مكتباتها، من كرمها وحسن ضيافتها، من كل المعاني الجميلة التي عشتها هناك فجاءت الزيارة موفقة جدا في كل نواحيها، أختم هذه السلسلة من المقالات على أمل اللقاء بكم في رحلة أخرى وأفكار جديدة، تقبلوا تحياتي والسلام عليكم.

مصدر الصورة: [فليكر]