عهدنا فيما عهدنا أن الحياة كد وجد وتعب فقط، حتى كدنا نغفل عن المعنى الحقيقي للعمل بمتعة، والتفكير بهدوء، والتحليل بعيدا عن ضوضاء الشارع وصخبه وإيقاعه المتسارع، ومن الحلول العملية البسيطة في هذا أن يكون لأصحاب التخصص أو الاهتمام المشترك لقاء دوريا يجمعهم ويوفر لهم فرصة للتحاور والنقاش.

وكتطبيق للفكرة مبدئيا في مجالنا المتمثل في الإعلام والفن عموما، رأينا أن نباشر فكرة قديمة جديدة، كانت بسيطة عفوية فتحولت والحمد لله الآن لمشروع أوسع، بتأطير أفضل ونتاج أوفر إن شاء الله، لقاء ودي دوري يجمعنا كأصدقاء نضع فيه كل الإشكالات الواردة أو التي تطرأ في مسيرة كل إعلامي أو فنان أو تقني، لتحليلها ومناقشتها بأسلوب علمي رصين، نستفيد من التجارب ونستلهم منها ما يساعدنا في أداء مهامنا بكل ثقة وثبات.

والملاحظ أنه كثيرا ما ألهانا ثقل ملفي الإعلام والفن عن البحث في تفاصيلهما، وأبهرتنا تجارب الآخرين في المجال فبقينا في مستوى الإعجاب من جهة، وفي موقف اليأس من جهة أخرى باستحالة أن نكون مثلهم أو أفضل منهم، كل هذا يحتاج أولا لأن نسمع بعضنا البعض، وننصت لأفكارنا بتركيز، فهم بشر ونحن كذلك، وإن كانوا يقومون بذلك متعة وترفا فينجحون، فما بالك إن كنا نقوم من باب الواجب والفرض.

ولسائل أن يسأل عن معنى الجمع بين الفن والإعلام، فهذا ما كان محور اللقاء الأول، إذ وجدنا أن العلاقة بينهما متلازمة مترابطة، فلا يمكن ممارسة إعلام قوي مؤثر دون فن يتوج مظهره، ويرسم معالمه الجمالية من صورة ولون وصوت، كما لا معنى للفن دون رسالة إعلامية من ورائه، فالمنشد إعلامي، والمصمم الفني إعلامي، والرسام إعلامي…إلخ، والفكرة تجمع الفنيين والتقنيين والإعلاميين على صعيد واحد للتكامل والتنسيق في إطار تشاركي تفاعلي.

فكرة المشروع تعود لخمسة أعوام تقريبا حينما كنا كمجموعة أصدقاء نحمل نفس الهمّ، ونطمح لأفكار متقاربة متشابهة يجمعها مجال الإعلام، والفن كهواية واهتمام، كنا حينها ثلاثة، ثم زاد العدد لخمسة، نلتقي أسبوعيا (كل مساء اثنين) بصفة منتظمة لا نتعطل إلا لمانع ضروري، نتناقش ونحلل ونحلم ونفكر، في ما يمكن وما لا يمكن، فالإيمان بالفكرة حينها يحذونا، واليقين بالله عز وجل وبقدراتنا جعلانا نصرّ على تحقيق إعلام هادف محترف.

كان لكل منا توجهه وتطبيقاته لما نقول في تلك اللقاءات، ولكل منا عمله واهتمامه في الحياة، فبدأنا العمل أولا على مستوى المفاهيم، ودققنا فيها جيدا، فجاءت كل فكرة مما نعالج كبذرة مشروع على أن تولى له العناية والرعاية، فمن مجرد أفكار تطورت وصارت فعلا أمرا ميدانيا ولله الحمد، ثم بعدها تفرقت بنا السبل، وباعدت بيننا الظروف لأسباب مختلفة، منا من غير مكان عمله، ومنا من دخل في ارتباطاته ومشاغله، إلا من لقاءات هنا وهناك بصفة شخصية ونادرة، فلم تعد بتلك الوتيرة المنظمة كما الأول، لكن مع كل ذلك كانت هناك جذوة متقدة ولو خافتة، والتواصل باق والعلاقة طيبة مستمرة.

دائما ما أؤمن بأن الأفكار القوية المبنية على أسس متينة كخط الذهب ترقّ ولا تنقطع، لذا فما كان لقاءات فكرية تواصل بفعل ما تركته من آثار كمشاريع انبثقت منها، إلى أن جاء اليوم الذي عزمنا فيه على جمع الشتات مرة أخرى بنفس الوجوه تقريبا مع فتح باب المشاركة لمن يود الانضمام، ناوين من ذلك حب الخير وبثه في الأوساط، وزرع بذوره آملين أن تثمر يوما ما جهودا أخرى، وأفكارا متجددة تحمل الرسالة السامية في إطار الغاية الأسمى.

كانت “ومضة للإنتاج الفني” كمشروع إعلامي في طور النمو والتشكّل، ومنها ولدت فكرة “أصدقاء ومضة” لتكون منبرا وفرصة لتناول الرسالة الإعلامية في إطارها الفكري مركزين فيها على المعنى إضافة للعمل الميداني الذي يأتي آليا حينما تشحذ الهمم وينتشر الوعي بالرسالة واكتساب المهارة التقنية والفنية، فانطلاقا بكون المواهب متوفرة، والإمكانات موفرة أفضل من أي وقت مضى، أسسنا “أصدقاء ومضة” كفرصة لتبادل المعارف، وصقل المواهب، وإتاحة الفرصة أكبر للإبداع والفعالية، فكم من مبدع يحتاج لمن يدفعه ويقدر جهوده ويثمنها، وكم من فاعل ومنتج يحتاج لمن يدعمه ويقيّمه ويثري ما عمل وأنتج.

أملنا كبير أن نكون في “أصدقاء ومضة” دعاة للخير، ميسرين لمجال طالما ظلم بتلك النظرة السلبية له، فالإعلام إن كان سابقا مجرد لعبة وترف وفرصة للكسب المادي كما غلب في تصور الناس، فهو الآن من أوكد الثغور، وأوجب جبهات الجهاد، نشرا للقيم، وتهذيبا للأذواق التي شوهتها الحداثة الزائفة، وبثا للوعي في أوساط الهواة ليكونوا رساليين لا آلات في يد غيرهم.

“أصدقاء ومضة” لا نريدها بذلك التعقيد في تناول المصطلحات وفك الشفرات المستعصية التي تحتاج لجهود مراكز التفكير المتخصصة من أول وهلة، إنما هي فرصة لكل مهتم بتنمية مهاراته الفكرية والفنية والتقنية في مجال الإعلام وذلك ضروري، وكذا للخوض في تجارب ميدانية مع فرق عمل لها من الخبرة والتجربة ما يزكيها ويزيد من الثقة فيها، فالمجموعة إن تشكلت وقويت جذورها صارت الآليات لديها من البديهيات، فما عليها حينها إلا أن تبدع وتؤثر ابتداء من دائرتها لأبعد نقطة في الكون.

ولعل من أهم الدوافع لتفعيل الفكرة ذلك الانطباع السائد حول انحراف الأداء الإعلامي حولنا، فصار يشكل خطرا علينا في أغلبه، مما يستدعي منا ردات فعل لا تتجاوز الشجب والتنديد، والتذمر دون تحريك ساكن، لكن بمناقشات جادة في طاولة الحوار العلمية، وبتظافر الجهود وتوجيهها لعمل مرتب ممنهج بعيدا عن ردات الفعل الآنية، والهبات الظرفية، سنحقق ذلك الجيل من الواعين، ليكونوا بدورهم ميسرين لأجيال أخرى كذلك.

في “أصدقاء ومضة” نحلل القضايا الإعلامية بما نملك من مؤهلات، ونعرض أفكارنا وأعمالنا للتحليل والنقد والتقييم، نشاهد أعمالا ناجحة ونحللها بالتفصيل ونبحث في أسباب نجاحها ونسبر أغوارها وأسرارها، نكوّن فيها جيلا من الشباب الذي يميّز حين يستهلك، وحين يبدع وحين ينتج، لا ينساق وراء بريق الأمواج مهما علت، لا يجرفه التيار ويؤثر فيه بقدر ما يجب عليه هو أن يوجّه ذلك التيار ويكون المؤثر الإيجابي له ولمن حمل.

عمليا قمنا بتأسيس مجموعة باسم “أصدقاء ومضة… ملتقى الفن والإعلام” في فيسبوك لتبادل المعلومات التنظيمية حول اللقاءات، وكذا لنشر مخرجاتها إن كانت تقارير أو توصيات عملية، فالمجال مفتوح لمن يود الانضمام والتفاعل معنا، وهي مفتوحة للجميع، فشاركونا وأفيدوا واستفيدوا، هي خطوة بفضل الله قمنا بانطلاقتها، فمنكم المزيد لخطوات أكبر إن شاء الله.

شكري لمؤسسة “فييكوس للإعلام المعرفي” ولجنودها إذ كانوا وسيط الخير في هذه المبادرة، وشكري لكل الأصدقاء الذين شرفونا في اللقاءات الماضية، حضوريا أو من خلال المشاركة بالتعقيب في مجموعة الفيسبوك، وشكري أيضا لمن سيلتحق بنا مستقبلا، فالمجموعة في بداياتها، ورجائي في نجاحها كبير، فمادام الإخلاص يتوج جهودنا، والإتقان يكلل مساعينا، ورضوان الله غايتنا، فإن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عمله.