يسر الله لي قبل أيام لقاء رجل فاضل كريم رأيت فيه أسمى معاني الحياة متجسدة بكل ألوانها، رجل حباه الله فضلا ورزقا وبارك في عمره ليشهد ثمرة جهوده طيلة عقود من الزمن..

في اللقاء الشيق صال بنا الرجل وجال في أبرز محطات حياته يرويها بكل صدق، تغالبه دموعه بكل تأثر أحيانا، ويمر ببعضها ضاحكا متندرا، وبين هذه وتلك كنت أحاول فهم ظاهرة النسيان فينا، بما يعتصرنا من ظروف صعبة مزلزلة في لحظات ما، ثم تتحول بعد زمن قد يقصر أو يطول إلى ذكريات نرويها بألسنتنا يراها المستمع مجردة بينما نحن فقط من نشعر بقيمتها.

عاش الرجل طفولته في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وشبابه في السبعينيات وخاض فيها أولى تجاربه في العمل وبالذات في الصناعة، وبعدها الثمانينيات والتسعينيات بكل ما حملته من تقلبات ومخاض أمني اقتصادي مرت به الجزائر، إلى فترة الألفينيات حتى دخل مرحلة التقاعد جزئيا بعدما حمل أبناؤه المشعل، وقلبه وروحه معلقة بمجال عمله ومبادراته الاجتماعية التي يخوضها بكل حب.

كلمات وأوصاف مثل الاستعمار والاستقلال، الحزب الواحد، الثورة الزراعية، العشرية السوداء، أحداث مزاب بحلقاتها، مرحلة انتعاش الاستيراد على حساب التصنيع.. وما بعدها وما يتخللها.. قد نمر عليها بوصفها كأنها لحظات بسيطة في التاريخ إلا أن كل منها تركت ندبة وبقعة وطفحا وقرحة في جسم وذهن من عاشها وعانى من تبعاتها.. ومن بينهما مثلا حين روى لنا حادثة إيقافه وعائلته في حاجز أمني مزيف أيام الإرهاب وكيف نجا منه بأعجوبة إلا أنها كانت لحظة إصابته وزوجته بمرض السكري من شدة الصدمة.. وكذا لحظة إخباره أيام أحداث مزاب باستباحة واقتحام مزرعته الفخمة التي صرف فيها الغالي والنفيس..

يعيش الرجل معاناته مع عدة أمراض نهشت جسده إلا أن روحه الراقية ومزاجه العالي لا يخفى على كل من عاشره واستأنس به، ومن قصده منكسرا عاد منه مشرقا، ومن زاره مشفقا عليه انصرف منه مشفقا على نفسه، يشهد له من حوله بجمال روحه وسمو ذوقه ولطف دعابته..

ولعل أغلى قيمة ورسالة واعتراف سمعتها منه حينما عدد له أحد من حضر معنا مشاريعه الخيرية وذكره بها.. فقال كلها مشاريع أنويها صدقات جارية لوالديّ سائلا الله تعالى القبول والرضا والفوز ببرهما..

جلسات ولقاءات كهذه تعد لدي إضافة قيمة جدا في الحياة.. أسد بها ثغرات وفجوات في ذهني وروحي، وأستمد منها طاقة تعينني على ما أنا فيه أو مقبل عليه، وأراها فرصة غالية ورسالة ربانية أعيد بها توجيه بوصلتي، وتقييم مساري، وشحن عزيمتي، وشحذ همتي، والاستزادة للصبر والتحمل في ما بقي من المسير.. نحو المصير..

طوبى لمن خلقه الله للخير وأجرى الخير على يديه..