تتشكّل نقاشاتنا من أخذ وردّ بين رأيين عادة، فلا نرتاح إلّا وقد أقنعنا الطرف الآخر بوجهة نظرنا، أو في أسوء الظروف نفترق على تباعد أكثر، وإن كنّا ربّما قاب قوسين أو أدنى من التوافق قبل ذلك، هاتان حالتان غالبا ما نشهدهما ونعيشهما واقعا وعيانا.

نوهَم كثيرا بفعل البيئة أو تأثير الإعلام من حولنا ونبني آراءنا وتصوّراتنا على وجود احتمالين أو رأيين لكلّ قضيّة لا ثالث لهما، فنسقط في مغالطة الـ “مع” أو “ضدّ”، نسأل بها غيرنا أو يسألوننا بها، فيكون الجواب مختزلا جدّا والنقاش موجّه إلى ركن محدّد سلفا، وهذا خطأ فادح نقع فيه ونحن نميّز ونحلّل قضايانا ونراجع قناعاتنا وتحيّزاتنا، بسطحيّة دون تعمّق، وباختزال لها دون اعتبار تركيبتها وحيثياتها.

ليس فرضا أن أكون مع قضيّة أو ضدّها، ولكن ربّما أكون “مع” و”ضدّ” في نفس الوقت، أو لا أكون لا “مع” ولا “ضدّ”، فلماذا تفرض عليّ حالتين وتخيّرني بينهما وفي واقع الأمر هناك احتمالات أخرى غيرها؟، فرأيي حينها يمكن أن يكون بشيء ممّا أطلقت عليه “مع”، وقليل مما تراه من جهة “ضدّ”، وبهذا يكون لي احتمال ثالث أهملتَه وأغفلته تماما ممّا خيّرتني فيه.

الاحتمال الثالث المغيّب ليس هروبا من النقاش ولا لفّ ولا دوران كما يراه البعض، إنّما هو إرساء للمنهجيّة، وتحقيق للمعقوليّة، وتعزيز لثقافة الحوار بحريّة فكر، ودقّة ملاحظة، وعمق مطلوب في مثل هذه الأمور، لا بإخفاء مقصود أو غير مقصود لما يحتمل أن يكون الحلّ الأمثل من سبيله.

فلنراجع كثيرا من القضايا في حياتنا لنجد أنّنا كنّا حبيسي الاحتمالين في حين ثالثهما مضمر غير مطروح، قد يكون الحلّ فيه، بل غالبا ما يكون كذلك!