تشرفت هذا الأسبوع بدعوة لحضور ملتقى دولي تناول فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح الله كولن، الدعوة جاءت في إطار مهمّة عمل، إلا أن ذلك لم يمنعني من الاستفادة علميا وفكريا، وكعادتي فلا أترك مثل هذه المحطات تمر دون تقييم ذاتي لي وموضوعي لها، لذا حاولت في هذه السطور خط بعض الأفكار واللمحات.
أتناول التحليل من عدة جوانب تمس الملتقى وتؤثر فيه بصفة مباشرة أو غير مباشرة، كظروف التنظيم والإمكانات البشرية والمادية، والمحتوى المعرفي فيه وقيمة الضيوف والالتزام بالمعايير والمقاييس، وغيرها مما أراه ناجحا جدا في أغلبها ومقصّرا في جزء منها، وفي الأخير هذا التقييم شخصي لا ألزم به أحدا.
بصفة عامة أعتبر الملتقى بكل ما احتوى مفيدا جدا، هي خطوة حكيمة قام بها المنظمون انطلاقا من صاحب الفكرة الذي ينكر كل فضل له، إلى الجهات المشرفة كمجلة حراء التركية وجامعة الجزائر (1) -أرجو أن يتغير اسمها لاسم ذي معنى عوض لغة الأرقام!
- اختيار الموضوع كان موفقا لحد بعيد، فشخصيا أهتم كثيرا بكل ما يصبّ في بناء الحضارة وإرساء أسسها وإعلاء كيانها، فالعنوان كما جاء في الملتقى المقام يومي 20 و21 نوفمبر 2012م: (فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح الله كولن، نحو ترشيد الفكر والفعل)، وكما نعلم فالأول مفكر جزائري (و: 1905 ت: 1973م) والثاني مفكر تركي لازال على قيد الحياة ندعو الله له بركة العمر.
- اختيار المكان أيضا كان في المستوى عموما على اعتباره فندقا فخما (Hilton) ذو الخمس نجوم، فقد أدى خدمات راقية في عدة جوانب من الملتقى إلا أن القاعة لو كانت أوسع وأرحب واختير لها شكل المدرج أفضل من الكراسي المصطفة، لتسهل عملية الاستيعاب بشكل أوفى وأحسن.
- أما عن المحاضرين فكان مستواهم نوعيا في مجمله، انطلاقا من وجوه جزائرية مبدعة لها باع في التحليل والمحاضرة بمنهجية عالية المستوى، إلى دكاترة عرب من المغرب الشقيق ومصر والأردن واليمن وآخرون من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا التنوع أعطى للملتقى بعده العالمي، وللمفكرَين أثرهما الكبير المتجاوز لأوطانهما وثقافاتهما، مع ما توّج الملتقى أيضا من ضيوف من دول عربية وإسلامية كتونس وتنزانيا جاؤوا لينعموا بهذا الجو العلمي في أرض الجزائر ونِعم ما جاؤوا لأجله.
- المحاضرات أيضا تنوعت وتناولت معظم جوانب فكرة الملتقى، فجاءت ثرية تحمل في طياتها الكثير مما يجدر بنا تحليله ودراسته، مع ما حدث هناك من سوء فهم أو تقدير لآثار العالمَين، فسقط البعض في فخ المفاضلة والمقارنة لأجل المقارنة مبينا أي المفكرَين أحسن وأعلم وأفضل وهذا خروج تام عن هدف الملتقى الذي يريد منه القائمون عليه ربط الجسور والتعاون في المتفق وتثمين الإنجازات مادامت في خط سليم صحيح، وهذا ما ردّ عليه بعض المحاضرين ردّا جميلا، فنوّه لجوهر الملتقى الذي أصلا كان للتفعيل الميداني لا مجرد الوصف وسرد المحاضرات ثم طيّها دون تشغيل لما جاء فيها.
- تقنيا كان الملتقى في المستوى إذ وفّرت الترجمة الفورية باللغات الثلاث العربية والتركية والإنجليزية، كون المحاضرين تحدثوا بإحدى هذه اللغات، فجاءت الترجمة سلسة رائعة تجعل مستعملها في عمق الحدث، كما المطبوعات والوسائل التعريفية أيضا توفرت بشكل مبسط جميل بما يؤدي دوره.
- إعلاميا تجدر الإشارة للحضور القوي من تركيا وغيابه جزئيا من وسائل الإعلام الجزائرية، وأرجع هذا لسببين، أولها ربما لانشغالها بملفاتها المعهودة والتي تدخل ضمن الأولويات أو ما يصطلح عنه بقضايا الساعة، كالانتخابات والعدوان على غزة…إلخ، ثانيهما لعدم إيلاء الأهمية لأحداث مثل هذه في الجزائر لحد اللحظة بسبب المجال والموضوع، ومؤتمر مجمع الفقة الإسلامي الدولي بوهران المقام بين 13 و18 سبتمبر 2012م أكبر دليل في تغييبه إعلاميا.
- في الأخير وكأي ملتقى تسرد جملة من التوصيات، وهنا أسجل ملاحظة على اللجنة العلمية للملتقى إن لم ألمس مكمن الفعالية فيها، فكانت عبارة عن جمل وعبارات مرتبة دون أن تمخض عنها خطوات عملية فعالة، ربما هو رأيي الشخصي وهناك من يخالفني، لكني كنت أنتظر أكثر من ذلك، فالمفكر مالك بن نبي الجزائري لازال غريبا لدينا في الجزائر فيما تتدارس آثاره دول ومنظومات تربوية هنا وهناك بل وتفعّل ميدانيا، وكذا تجربة المفكر فتح الله كولن تستحق منا مجهودا أكبر لنحيط بخيوطها ونستثمرها إيجابيا لنهضتنا.
حضور ملتقيات كهذه يوفر لنا اكتساب تجارب جديدة فيها، والتعرف على أنماط تفكير متنوعة، والاحتكاك بالشخصيات والمستويات العلمية الراقية بشكل جيد، فما هو مسلّم به، ليس من البسيط أن تنظم ملتقى دوليا وتتقن كل جوانبه وتعطي لها حقها ومستحقها بنفس الدرجة والكمال، إنما ذلك ممكن إن توفرت آليات العمل الجماعي بحذافيرها، فالحمل ثقيل بشكله المجمل، خفيف إن فككناه وتمرّسنا قواعده وأسسه.
للعلم فتنظيم الملتقيات والأحداث العلمية عموما صار الآن تخصصا قائما بذاته، تؤسس له شركات دورها فقط تسيير الفعاليات وتنظيمها من الألف إلى الياء، وربما في الجزائر لا زالت التجربة في مهدها، لكنها مجال خصب لمن يود خوض غمارها.
بعد كل هذا ماذا استفدنا؟ ولماذا أصلا كان الملتقى؟ هو في الحقيقة سؤال طرحه بعض المحاضرين أيضا هناك، والفطن منا يجد أن العمل يبدأ باختتام الملتقى بتجسيد التوصيات التي غالبا ما تكون حبيسة الأوراق لا تجد طريقا للتفعيل إلا نادرا أو عن طريق الحظ، لكني على يقين أن هناك من يعمل لا ينتظر أحدا، ندعو الله له التوفيق والسداد، ومن لازال نائما غارقا في الأحلام فلنقل له… نم فعجلة الزمن تدور وسنن الله في كونه لا تحابي أحدا!
شكررررررررررآ اخي على هذه الطرح
الله يجزاك كل خييييير
يعطيك العافية