قراءة بعض الكتب متعة ما بعدها متعة، هي تلك الكتب التي تحس وكأن هناك انسجام تام بينك وبين ما احتوت دفاتها، وتناغم عجيب بين ما جاء فيها من أفكار وما يدور في خلدك ولا تستطيع تبليغه قولا أو كتابة، أو إجابة عن أسئلة طال البحث عن إجابات عنها، وهذا ما ينطبق على هذا الكتاب الذي بين يدينا الآن دون مجاملة…
وقد عهدت فيما عهدت أن يكون برنامج مطالعتي للكتب متعددا، فأنطلق في أكثر من كتاب وأخصص لكل منها وقتا محددا، حسب التخصص تارة، وحسب الحاجة فيها لمحور محدد تارة أخرى، كما أسلّي نفسي بقراءة الروايات من حين لآخر لأوسّع مساحة الخيال والإبداع وملَكة الكتابة أيضا، وقد مضيت فعلا مع هذه التجربة من مدة طويلة، ونجحت فيها أيما نجاح، فتعدد الكتب في المطالعة يدفع الملل، ويترك حبل التفكير متيقظا للربط بين ما جاء في هذا الكتاب وذاك، إلا أني رغم كل هذا قد خرقت قوانين اللعبة هذه المرة، وخلوت بنفسي مع “أرباب المستوى” أقرأ وأعيد، أنطلق ثم أتمهل، أكرر الفكرة وأتأملها قبل المضي لما يليها…
أفعل هذا لا لشيء سوى لما حمَل هذا الكتاب من تعديل للكثير من قناعاتي، وحوصلة وترتيب وصقل لأفكار أخرى كانت مشتتة لفترة طويلة حتى أثقلت كاهلي، وأعيتني لحد التألم والتذمر منها، هذا فعلا ما حصل معي حينما قرأت الكتاب مشتّتا أول الأمر حينما عرض المؤلّف حفظه الله، بعض أجزائه كمقالات منشورة في موقع فييكوس نت، ثم بعدها استمعت لمقطع منه بصوته “عن بعد” في إحدى الحلقات الفكرية، وهذه المرة كان الكتاب بين يدي ألتهمه التهاما صفحة صفحة، فكرة فكرة…
هذا ما حصل معي وليس بالضرورة قد حصل أو يحصل لكل قارئ طبعا، فالظروف والمعطيات، الترسبات والخلفيات، التحيزات والمنطلقات ليس واحدة، وإنما لو تجرد القارئ وأنصف فلا شك سيقع في ضيق أحيانا بفعل هول ما هو مكلّف به وما هو واقع فعلا، وسيشعر بالألم من الفجوة التي تقف حاجزا بين ما في رصيد الأمة الفكري وما هو واقع في الميدان من فتن وتخلف وخزي، سيجد أيضا في أعماقه برودة تسري فيه من الأمل مما هو ممكن وقريب المنال، سيعيش لحظات من السرحان سرعان ما يستفيق مبادرا ليتحرك في محيطه ودائرته مفعّلا… سيجد ويجد ويجد…
ما لا أعتقده جازما أن د. محمد باباعمي كتب هذا الكتاب في جو من الراحة والنوم على الحرير، فجمرات حارة تكويك وإبر حادة توخزك وأنت تقلّب أفكار الكتاب وتعيد رصّها وتحاول تبرير تقصيرك تجاهها، فأشهد الله أنه أوتي ملَكة غريبة من التأثير في القارئ حين يقرأ له، وفي السامع حين يسمعه، فما بالك بالمشاهد عندما يجلس إليه ناهلا من معينه النابض بالفعالية والحركية، لا أقول هذا مدحا ومجاملة، ولكنها التجربة التي أجدني محظوظا جدا بمعايشتها، والرجل لتواضعه سينكر عليّ ما أقول لا محالة.
حينما يفضّل أي مؤلف مجانبة الأطر الأكاديمية والمعلّبات النمطيّة في مقدمة كتابه فهذه فعلا مغامرة، لكن في هذا الكتاب كانت الذاتية الصادقة أجدى وأقوى من الموضوعية الموهمة على رأي المؤلّف، فالمخاطب فيه هي القلوب الضارعة والأرواح النابضة، جنبا إلى جنب مع العقول الذكية والقرائح الفطنة، وفعلا أجاد في ذلك وأبدع على رأي قارئ بسيط مثلي، فما بالك بالمتمرسين والأساطين.
لا أريد الاستغراق كثيرا في تفاصيل الكتاب، حتى لا أشوه بريقه، ولا أقلل من شأنه، ولك أخي القارئ أن تحصل عليه وتنعم به كما فعلت، ولكل منا قدراته في استيعاب ما جاء فيه بالعقل والقلب وتصريفه أعمالا وأفعالا، إلا أنه من بين ما جذبني فيه هذه العبارة التي أراها معلَما على كل قارئ لأي كتاب أن يأخذها بعين الاعتبار، كي يبلغ ما يرجو من قراءته تلك:
- خذ اللبّ وذر القشور، حباك الله من فضله.
- ابتغ الحق فيما تأتي وما تذر، هذاك الله بكرمه.
- انو العمل، ولا تركن إلى الترف الفكري، وفقك الله بعزّه.
عنوان الكتاب “أرباب المستوى، حضور معرفي في فكر الأستاذ فتح الله كولن” أما ما يخص محتواه فقد جاء في أربعة أقسام، تناول أوله فصولا حول العلاقة بين الفكر والفعل، وصال وجال بين المحاولات لخلاص البشرية عبر التاريخ والحضارات دون جدوى بابتعاده عن خط السير الإلهي وتخبطه في وحل الإيديولوجيات، فجاءت مقالاته سياحة معرفية فكرية فيزيائية رياضية تاريخية اجتماعية في تسلسل رهيب، وتزاوج ساحر، قدم فيها مجموعة منطلقات تحتاج لمن يواصل فيها، وفتَح الشهية لمن يشترك في الهمّ ويؤرّقه وضع الإنسانية حاليا بآلامها وآمالها.
أما القسم الثاني فكانت فصولا ذاتية موضوعية، فمن مدفئة “بايكان” إلى المسيري، وإلى فريد الأنصاري رحمهما الله، إلى وقف الكتّاب والصحفيين للأستاذ فتح الله كولن، وما ينتظره العرب منه ومن مشروع الخدمة في لفتات وإشارات بديعة، تهزّ كل متأمل فيها.
وفي ثالث الأقسام كان حضور المفكر الفذ مالك بن نبي رحمه الله جنبا إلى جنب مع جهود الأستاذ فتح الله كولن ومسيرتهما المباركة، في تناغم وتبادل للأدوار باعتماد طريقة الأحجية العلمية منهجا، فاشترك العالمان في المعاناة لأجل الرسالة السامية والغاية النبيلة، وكل بلغها بطريقته وما يسّره الله له، إلى أن يخلص في الأخير إلى معاني قاسية ثقيلة لا مجال للركون بعد العلم بها والاستكانة والخنوع… لك أو لأخيك أو للذئب!!
مسك الختام في القسم الرابع يصف هنا المؤلّف الدكتور مركزا علميا لا يمكن تصديق ما كتب عنه لأول وهلة، لمن لم ينل شرف الوقوف فعلا على حقيقته، ولم يشاهد عيانا “الأكاديميا” في تركيا، ومن جهة ثانية فحتى القارئ الذي شاهد ورأى سيتمنى لو كانت هناك أوصاف أفضل وأكبر مما وصفت به، فالكاتب هنا في حيرة من أمره وفي مهمة جد صعبة، الشاهد من هذا كله هو أن ما قال حقا هو موجود، ولم يذكره للتباهي أو الفخر، إنما لنقتدي ونتحرك خاصة لما نرى أن هناك فعلا أملا، وهناك حقيقة من فعل وبادر وشارف على الوصول!
ثم مع أسلوب التدريس لدى الأستاذ فتح الله، ورؤيته لمراكز البحث وكيف يجب أن تكون، وكذا التفصيل في مقاربة الجماعة العلمية والتي هي سر اختصار المسافات والزمان، فيد الله مع الجماعة المخلصة، جماعة تسودها الأخلاق، وتميّزها عناصر أربع حين تتوفر صدقا فالإنجازات لا تحصى، والآمال لا ولن تتوقف وهي:
- البيئة الصالحة
- عشق العلم
- عزم العمل
- البحث المنهجي
أختم هذه المقالة الطويلة في مبناها وإن لم أرد ذلك لها فعلا، إلا أني لا أجرؤ وأقول إني كتبت قراءة عن كتاب “أرباب المستوى” بل هي مجرد مقالة وصفية سطحية أرجو أنها خرجت من قارئ صادق، لتقع في ذهن قارئ صادق أيضا، نسأل الله أن يرزقنا الحكمة والسداد في المسلك، آمين.
- الكتاب متوفر في خدمة كتابك لموسمها الثاني، ويمكن الحصول عليها بزيارة صفحتها [موقع فييكوس نت].
- قدم د. محمد باباعمي محاضرة عن الكتاب مبينا فيها أهم ما جاء فيه [الحلقة 1]، [الحلقة 2].
———————————–
على الجانب: سوف أهدي نسختي المطبوعة من هذا الكتاب لمن يترك تعقيبا عن المقالة + مشاركتها في فيسبوك أو تويتر أم معا، وسأجري سحبا بعد أسبوعين من الآن إن شاء الله (20 ماي 2013م).
ماشاء الله.. سبحان من جعل البيان ينساب ساحرا في مقالاتك أخي جابر.
سبق لي أن قرأت كتاب أرباب المستوى، بتمعن وتفحص خاصة في جزئه الخاص بالأكاديميا، لكن أنت الآن تدفهني لأن اعيد القراءة مرة ثانية،وثالثة، ورابعة.. فجزاك الله خيرا
بمثل هذه الأقلام المبدعة، وجب أن نعرض تلك الكتابات الفكرية العميقة، فنعم السفير أنت، في أوساط الشباب خاصة.
سلامي وتشكراتي.
بوركتم أخي اللبيب جابر
وقد أحسنتم في عرض بعض خواطركم عن هذا المؤلَّف والمؤلِّف. وها أنا ذا أعترف لكم بما يجول في خاطري أيضا.
فالكتاب معقد، وصعب، وصادم, وملتزم كثيرا. وتوقعاته منا عالية المرام، مثبطة للعزائم…..ووو.
وهذا بكل ما تحمل هذه العبارات من معاني إيجابية محفزة ومستفزة وموجِّهة للأحسن والأجود…..!
فقد قال عباس محمود العقاد فيما أذكر: ” أنا لا أكتب للكسالى الذين يقرأون كتبي وهم مستلقون على وسائدهم طلبا للنوم”.
أما أنا فسأقعد على مكتبي وأنحي ظهري وأوقد شمعة أو ضوءً مناسبا، ثم أعقد العزم على إعادة القراءة بهِمَّة أخرى هذه المرة……لعل وعسى.
فاللهم جازي المؤلف بما هو أهل له، ووفق القراء لفهم ما في كتابه والعمل به وعليه ولأجله.
والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ابراهيم
السلام عليكم
مما لا شك فيه أن الدكتور محمد موسى بابا عمي يحمل هم أمته ويريدنا أن نحمل هم أمتنا مثله. عندما يحدثك الأستاذ عن الذات عن العقل عن الفكر عن المعرفة عن الواقع عن الحضارة عن التجارب عن المنهج القرآني، سيجعلك تنظر للحياة وللواقع بطريقة مختلفة وشئت أم أبيت سيجعلك أيضا تفكر بلون مختلف لصدق وعمق وتأثير كلماته، لأنه يخاطب قلبك وعقلك. سيجيبك عن كثير من الأسئلة التي وجد لها جواب، ويثير فيك كثيرا من الأسئلة التي هي بحاجة إلى جواب. فلا أشك أن بين طيات كتابه سيتعرض لكل هذه المعاني.
فأنا من المعجبين بفكر الأستاذ والدكتور محمد ، المتأثر بفكر مالك بن نبي الجزائري ومحمد فتح الله كولن التركي، أيضا محمد مهاتير الماليزي. هؤلاء المفكرين الذين لا يكاد يخلو حديثه عنهم.
معرفتي به أول مرة ككاتب كانت من خلال كتاب ” مفهوم الزمن في القرآن الكريم” وأيضا من خلال كتيّبي النسق المفتوح والصدق في العمل الاجتماعي من سلسلة “ما بأنفسهم” وأيضا تعرفت عليه كفكر من خلال حلقات ” تخصيب الفكر” ومن خلال سلسلة من المحاضرات واللقاءات التي وجدتها على قناة حراء على اليوتيب. قبلا كنت من قراء ومتابعي فكر الشيخ محمد الغزالي المصري، وبعد معرفتي بالدكتور محمد أصبحت أقرأ أيضا لفكر ملك بن نبي، كما شوّقني لقراءة واستكشاف فكر محمد مهاتير وفتح الله كولن.
فأشكرك أخي جابر على الموضوع وصدق كلماتك وبارك الله فيك، لقد شوقتنا لقراءة الكتاب وأتمنى أن أحظى بفرصة لقراءته. في الأخير هذه بعض الكلمات والتساؤلات التي كانت منطلق فكر الأستاذ محمد موسى بابا عمي حفظه الله وسدد خطاه وأنار له الدرب، أوردها لمن لا يعرفه.
يقول الدكتور محمد بابا عمي: “دائما أبحث ما هي العلاقة بين الفكر الذي أحمله وبين الفعل الذي أعمله، بين المعتقد الذي في قلبي وبين السلوك الذي يظهر على جوارحي. ما هي هذه العلاقة؟ أين تبدو هذه العلاقة؟ متى تبدو؟ كيف تبدو؟ ثم كيف أصنع إيجابية فعالية من خلال فكرة أحملها (فكرة جيدة تتحول إلى عمل إيجابي)؟ لماذا تتحول عند بعض ولا تتحول عند البعض الآخر؟”
ويقول أيضا: “سؤال الأزمة في علاقة الفكر بالعمل، في علاقة الإيمان بالواقع.سؤال الأزمة السؤال الصغير الكبير: أعرف الصواب وأعرف الحق ولا آتيه،وأعرف الباطل وأعرف الخطأ وآتيه.لماذا فكرنا لا يتحول إلى واقع؟
لماذا واقعنا لا يضرب جذوره في الفكر؟ من سيجيب عن هذا السؤال؟ متى سنجيب عن هذا السؤال؟ كيف سنجيب عن هذا السؤال؟ وبعد بحث طويل يرى الأستاذ محمد (الذي يقول عن نفسه بأنه صادق وقد يكون مخطئا) بأن الدكتور فتح الله كولن وجد الجواب.هذا الجواب الذي وجد ما هو واجب المسلم اتّجاهه؟ فالأمة تنتظر منا شئنا أم أبينا أن نجيب على هذا السؤال”.
ومما قال أيضا:”لو تعلّمنا فن العطاء لتعلّمنا فن إقامة هذه الأمة على أرجلها لأنها لن تصبح بعد ذلك بقرة حلوبا، لأنها حتى وإن كانت بقرة حلوبا فإن الحليب سينتهي”.
وفقك الله بنيّ العزيز وزادك علما وبارك لنا في الأستاذ الفاضل د. محمّد موسى بابا عمّي وفي علمه وياليت شبابنا الواعي يستمسك بغرزه ويزاحمه بركبتيه في كلّ مجالسه لعلّ الله يقيّض لهذه الأمّة جيلا من أمثاله يتعاونون على البرّ والتقوى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوحل الذي تتخبّط فيه هذه الأمّة والتي تئنّ تحت وطأة الأنانية والمحسوبيّة والعمل لغير وجه الله فقد ظهر فيها من نسوا الله فأنساهم أنفسهم رغم الثقافة المنتشرة والوعي البادي في تصرّفاتهم ولكن خانهم التوفيق فأصبحت أعمالهم كهشيم تذروه الريّاح. وتساوى في ذلك جلّ من يظنّ أنّه من سراة القوم أو من زعمائها أو كبارها. فما أحوجنا إلى الرجوع إلى الله بالجدّ في العمل والإخلاص فيه بدون انتظار المدح أو الشكر. فالبدار البدار ياشباب محمّد والإخلاص الإخلاص يا أتباع محمّد مع الصبر الجميل والتأنّي دون استعجال النتائج. والله من وراء القصد. والله لا يضيع أجر من أحسن عملا…
سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته،
تحية طيبة مباركة عطرة وبعد،
….حقيقة أخي الكريم جابر حدبون عندما تتلو كتاب: أرباب المستوى، فإن شعورا خاصا سوف يتملكك، تحس بالراحة، تحس بالصدق، تحس بالعلم يتدفق وينساب إلى الاغوار، تحس بالمسؤولية العظيمة على عاتق كل واحد منا، وتذكره بأمانته العظيمة التي أبى عليها السموات والأرض والجبال وحملها الانسان…يا إلهي هي مسؤولية عظيمة جدا وفقنا لحملها،
الكتاب ثري جدا وغني ومتنوع بأفكاره واختلافاته وعلماءه، هو حجة علينا أن نعمل اكثر ونصبر اكثر ونصدق اكثر.
شكرا جزيلا على أستاذنا القدير الدكتور محمد باباعمي على هديته المباركة النتميزة بارك الله فيه.
وشكلرا جزيلا لك اخي الكريم جابر على هذه الخاطرة الجميلة الطيبة التي احسنت الوصف للكتاب، بورك فيك اخي وفي الكل، تحياتي وتقديري للجميع.