fbpx

قراءة في كتاب: آلهة من الحلوى!

يقاس حجم الكتب على خلاف غيرها بجودة المحتوى وقوة الأفكار وإن قلّت صفحاتها وصغر حجمها، ولعل هذه أفضل صورة يمكن أن نطلقها على الكتاب الذي بين أيدينا هذه المرة، “آلهة من الحلوى، الأقانيم الثلاثة: الطفل، المرأة، الحاكم” فهو حقا من أمتع ما يقرأ الإنسان، ليجعله يعيد النظر فيما حوله مرارا.

العنوان يبدو غريبا وربما مبهما لدى الكثير، يجعلنا وكأننا أمام هدية مغلفة نتشوق للاطلاع على ما فيها، وربما يخيل لنا من غموضه أننا أمام كتاب فلسفي صعب المراس لا يمكن فك طلاسمه إلا بالاستعانة بأقوى القواميس، إلا أن الحقيقة غير ذلك تماما، فأسلوب الكاتب بسيط جدا، وأفكاره سلسة تعبر عن الواقع بكل تفاصيله، فيكفي أن تطالعه لتجد رأسك تهتز في كل فكرة لما جاء في أفكاره وسرده للحال المؤسف الذي نعيش.

أورد المؤلف في بيان فكرة كتابه ما يلي: “إن هذا الكتاب ليس دراسة ولا فلسفة ولا بحثا علميا يرتكز على أسس وقوانين، لكنه عرض وتصوير لواقع، بعضه موجود عندنا وعند غيرنا، وبعضه موجود عندنا فقط، وبعضه موجود عند غيرنا، ومنه ما يتسرب إلينا في طمأنينة وسهولة ويسر”، وهذا ما يجعل الكتاب أقرب للقراء دون اعتبار لتخصص أو مستوى ثقافي معين، مع الإقرار بالتباين في الاستيعاب طبعا.

أما عن فحواه فنراه مرتكزا على محاور رئيسية تناول فيها الطفل أولا ثم المرأة ثم الحاكم، مستبقا لسؤال قد يطرحه القارئ عن سر غياب الرجل، فجاء بيان ذلك جميلا حكيما، معرجا لمظاهر العبادة في الأقانيم المذكورة، مع تسليط الضوء على إشكال الانسياق الجماعي وراء أفكار وقناعات دون تحليل أو تمحيص، بسبب كونها صدرت من فلان أو من تلك الجهة أو تلك، وختم الكتاب في الأخير بجملة أسئلة موجهة للعلماء والمفكرين المسلمين.

وعن مفهوم الآلهة المصنوعة من الحلوى ومحلها من الإعراب في هذا الكتاب، فهي صورة بيانية رائعة استقاها مما كان يقوم به الأعراب قديما من الإبداع في صنع إله  من الحلوى والانكباب على عبادته وتقديسه حتى إذا جاعوا بدأوا به والتهموه! والأقانيم المذكورة في الكتاب تتعدى ذلك لأكثر من ثلاثة لكل ما نتعامل معه بشعور أو دون ذلك بذهنية الإله والتقديس.

في محور الطفل تناول المفكر الجهود المبذولة حوله حتى قبل أشواط من ولوجه الحياة، ثم حين يكون في رحم الأم وفي الأسرة وفي المدرسة إلى ما تريده منه الدولة ليكون حين يكبر، فيقدم هنا صورة معبرة عن الطفل بين ما بنبغي أن يكون وبين ما هو واقع عندنا، وكيف أن الدول حاليا تعامل شعوبها معاملة الطفل فهي كالأم التي لا تستطيع أن تتصور أن ولدها قد كبر وأصبح رجلا فإما أن ينقاد لها وإلا أن تبدأ المشاكل وتثور الزوابع!

وحين جاء دور المرأة في الفصل الثاني، صوّر المعركة المفتعلة بينها وبين الرجل وكيف أنها جملة مغالطات وصل منها أصحابها إلى تقييدها أكثر من تحريرها، مع تناوله لمشكلة المرأة كما يراه من وجهة نظره، وتبسيطه لقضية استعمار الرجل للمرأة والعكس كذلك مزيلا الكثير من الغموض، وصولا إلى المساواة والتساوي وما يعنيه كل هذا بين الواقع وما كان ينبغي أن يكون، ثم مسألة التفوق بين الرجل والمرأة وهذا الجدال الفارغ من هنا وهناك، خاتما بالبسط في فكرة الخداع بين الرجل والمرأة، وجملة الخداع الذي وقعا فيها معا نتيجة الانسياق وراء مفاهيم براقة مظهرا فارغة جوهرا.

أما عن الحاكم كأقنوم ثالث فالموضوع جاء مناسبا جدا للمرحلة التي نمر بها هذه الفترة بالذات، سواء تعلق الأمر بداخل الوطن أو على المستوى العالمي، ومن هنا نرى أن سنن الحياة لا تتغير بالزمان، فما حدث ماضيا يحدث الآن، فقط بتعديل طفيف يتمثل في الإنسان، ورغم أن المؤلف لم يستفض كثيرا ضمن هذا المحور، إلا أنه تناول أفكارا عميقة، فقد بسط قضية الحاكم المخدوع بمن حوله، وجسدها على شكل مخروط في صورة بيانية رائعة.

وفي تساؤله عن غياب الرجل فيراه المؤلف مكلفا بواجبات، ولم يكن محطة تقديس، ولم يرق لرتبة التأليه، مختصرا له بهذه الصورة: “فهو باعتباره محكوما عليه أن يعد لسانه للموافقة وحنجرته للهتاف ويده للتصفيق ورجليه للمسيرة” فهو يكد ويعرض نفسه للموت ليسلم الطفل والمرأة والحاكم، ضاربا عدة أمثلة، مفصلا في القضية بأجمل الأمثلة الواقعية.

هناك نقطة أثارتني وستثير أي قارئ حتما في الكتاب تمثلت في فراسة الكاتب العجيبة، فقد أورد هذه العبارة كما هي وفد ألف الكتاب في القرن الماضي، قائلا: “ولا شك أن الحكام في الدول النامية أو في بعضها على الأقل يتساقطون كأوراق الخريف، فما أن يغفل أحدهم لحظة عن كرسيه حتى يجد نفسه محكوما عليه بالخيانة والعمالة، فإن قبض عليه قتل وسحبت جثته في الشوارع وإن نجا عاش غريبا بقية عمره”.

فما رأيك أيها القارئ إن قلت لك إن المفكر العلامة علي يحيى معمر ليبي توفي سنة 1980م، واسأل نفسك عما وقع في 2011م على مستوى ليبيا نفسها وعلى مستوى بعض الدول النامية كما أوردها في كتابه، وهو الذي عانى الويلات من الطاغية الليبي لعل أبرزها سجن أبنائه تنكيلا به ولنشاطه الفكري والسياسي حينها. “ولا يظلم ربك أحدا”.

حمل الكتاب أفكارا أصيلة تنفع كل قارئ إن وعاها، في 86 صفحة متضمنة سيرة ذاتية للمفكر علي يحيى معمر رحمه الله، وقدم له وحقّقه د. محمد باباعمي، ونشر ضمن خدمة “كتابوك” من مؤسسة فييكوس للإعلام المعرفي بالجزائر، إذ يستفيد منه المشتركون تحديدا. [للاشتراك].

الكتاب تميز ببساطة الأسلوب ومتعته، فالمؤلف مشهور بخفة روحه -حسب من عاصره- واعتماده لغة القارئ ليفهمه بعيدا عن التكلف اللغوي والأدبي من جهة، حريصا على سمو المستوى ورقيه من جهة أخرى، وتلك ملكة وموهبة ربانية قليل من أوتيها، فاللهم ارحمه وتقبل منه، وأدخله جناتك مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. شكرا لك أخي الكريم على مشاركتنا قراءتك في الكتاب .
    ماشاء الله أسلوب راقي في قراءتك للكتاب وما ذالك بغريب عليك ، فحقا صديق شيخنا الناصر رحمه الله علي يحي معمر معروف بأسلوبه المتزن وبأطروحاته المتميزة ,تحياتي لك أخوك ناصر .

  2. تلخيص ما قرأته وأنت لست مضطرا لذلك من أسمى أنواع الصدقة الجارية في عصر تكاسلت فيه أمة اقرأ عن القراءة.
    فتحت شهيتي لاقتناء الكتاب وأراه مما يهمني جدا، عشوائية توجهاتنا ينبغي لها لجام بعد لجام، وما أبرزته من أفكار الكاتب يجعله أهلا للقراءة بتمعن.
    بارك الله فيك وأدام نور فكرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى