وأنا أتصفح موقع الفيسبوك ذات مرة، مررت بنكتة جزائرية بريئة انطلاقا، عميقة دلالة، تذكرتها هذه الأيام وأنا في دوامة معاملة إدارية إذ طرأت في ذهني حينها، النكتة القصيرة جدا جاءت على شكل سؤال وجواب… ماذا يعني تداول عبارة: جزائر الغد؟ لأنك أينما ذهبت قيل لك: عد غدا؟!
ابتليت هذه الأيام بتجربة متعبة جدا، يكمن العناء فيها من أول خط الانطلاق، أوقات وحتى أموال تهدر في سبيل إنجاز بعض المعاملات الإدارية الضرورية فضلا عن الاختيارية، فكل مواطن جزائري وربما غير ذلك ملزم بالمرور على هذا الاختبار، في ظل نقص المعلومات وعدم وضوحها لأغلب ما تتضمنه الملفات المطلوبة، مما يفسح المجال لأي موظف باختراع قوانين جديدة لم يرها إلا في منامه، لا أدري ربما كان ذلك متعمدا لتربية النشء على الظروف الصعبة منذ نعومة أظفاره، حتى تشبّ الأجيال متمرسة عارفة بشؤون الحياة، خبيرة بخباياها!!
تبدأ فصول المعاناة في الطوابير الطويلة للحصول على بضع وثائق، لا تضمن صحتها حين تدفعها في المعاملة التي تليها، كان الأحرى بمن في يده الأمر أن يستعمل جزءا من التقنية المتوفرة، لكننا لازلنا في زمن القلم والورقة، فأحيانا القلم يحبسه حابس الفيل، أو الورقة نفذت ولم يتوفر منها ما يكفي! لا أدري الهدف من وراء ذلك إنما هناك من يفسرها بتنشيط الاقتصاد الوطني من تعدد الموظفين، وتوفير أسواق مهمة للمطابع وتجار الأقلام وما يتبعها، فمن أين يكون مصدر رزقهم حين تختصر الإجراءات؟ حقا تفكير حكيم!
أما عن مزاج الموظفين فتحت الصفر بدرجات، وله ما يبرره من عدة جوانب، أولها الراتب الهزيل الذي يتقاضونه مقابل ساعات معينة تعاقدوا عليها، إلا أنهم واقعيا يعملون ضعف ذلك أو أكثر، ثانيها المعاملة الفظة والكلمات القاسية التي يلاقونها من المواطنين الذين يصبون عليهم جام غضبهم ويحملونهم أحيانا أخطاء هم براء منها، وقد جاؤوا لاستخراج أوراقهم مشحونين أيضا بظروف الاستقبال الرديء إن لم نقل المنعدم، فالأكيد هناك ستكثر الأخطاء في الوثائق، وتضيع الأوقات في كل مشاداة كلامية تنشب هنا أو هناك يتدخل العقلاء لفضها، لنجد أنفسنا في الأخير أمام قصة الدجاجة والبيضة ندور ولا نبرح!
محتوى الحوارات والخطابات التي تجدها في الطوابير متنوعة متعددة كحافلات النقل العمومي تقريبا، مع شيء من التخصص والتركيز، ولعل أبرزها عبارة “لماذا لا يستعملون الكمبيوتر؟” أو “في دول كذا وكذا لديهم كذا وكذا ونحن لازلنا….!” أو “خمسون عاما من الاستقلال ولازلنا….!” وهكذا… إلخ، مع ما يصفه البعض بكون الأمر مدبرا لتحديد سقف المطالب لدى الشعب؟ فإشغال الناس في دوامة الأوراق لساعات وأيام وشهور ترهقهم نفسيا وجسديا، وبالتالي يكون أعلى مطمح لهم توفير الكمبيوتر في مكاتب استخلاص الوثائق والمعاملات الإدارية؟ ربما هذه النظرة للموضوع تأتي من جانب المؤامرة ببعض المبالغة إلا أنها لا تخلو من بعض الصواب، وما أعتقده جازما أن من بيده الأمر ليس عاجزا عن توفير ما يسهّل المعاملات بين ليلة وضحاها إن أراد ذلك.
لازلنا في زمن الرقمنة والتطور نمضي ساعات بل أياما للحصول على ورقة تثبت حياتنا من وفاتنا، بل حتى نسبنا وجنسيتنا ووطنيتنا! موظف المكتب البسيط ينصّب نفسه مديرا عاما، ووزيرا -إن شئت- يهين المواطن الأمي والمثقف، الصغير والكبير، إما بكلمات لا ترقى للأدب، وإما بسكوت وإعراض غير مبرر بينما ذلك المواطن المسكين غارق في وصف مشكلته وطريق معاناته الطويل حتى وصل لتلك المرحلة وبعدها يرفض بدم بارد! كلهم يضعهم الموظف تحت رحمة سطوته مستغلا مسؤوليته ومنصبه الهش الزائل لا محالة، مع أن تلك القصة ستدوم لأيام وشهور بحلوها ومرها لإتمامها بينما ينهيها الناس في مكان آخر في بضع دقائق مع ابتسامة عريضة وشكر لله والدولة!
في هذه الظروف السيئة هناك بصيص أمل من بعض الغيورين، إلا أنهم يغرقون في فوضى الإدراة والتسيير، لأنه من الصعب أن تحافظ هناك على أمرين معا، فإما أعصابك وصحتك، وإما مبادئك وأخلاقك، وبالتالي منصبك! وكما يقال فإن اليد الواحدة لا تصفق، فالموظفون في تلك الدوامة أنواع منهم من لا يشتغل إلا بالإكراميات أو البقشيش أو الرشوة أو… سمها ما شئت، ومنهم من تنزه عن كل هذه الأمور، وسار بحزم لكنه غرق في علاقاته ومعارفه فصار يمضي الليل والنهار في تخليص معاملات أقربائه وأصدقائه وحتى أقرباء أصدقائه ومن في دائرتهم الضيقة والموسعة.
الكل يدعو لرقمنة عاجلة سريعة، لكن هناك إشكال آخر، فهل نحتاج لرقمنة المعاملات والأوراق والمكاتب أولا، أم لرقمنة العقول والذهنيات؟ لأنني أعتقد أننا ولو حظينا ببعض الأجهزة الراقية المتطورة في المكاتب دون ترقية للحس الوظيفي وحسن المعاملة من الطرفين لبقينا في نفس المستنقع، مواطن لا يثق في موظف البلدية أو الدائرة أو الولاية، وموظف لا يحترم أوقات دوامه بداية ولا نهاية، ويرى في المواطن خائنا مزورا لوثائقه من أول وهلة، فأنت متهم إلى أن تثبت براءتك في منطقه، وقد حدث لي أن نظر إلي موظف في إحدى المعاملات يوما بنظرة ساخرة سائلا إن كنت أنا من ملأت الورقة أم فعل ذلك صديقه القابع في مكتب آخر!
أرى من العيب والعار أن نعيش هذه الأوضاع المزرية في دوائرنا الحكومية ونحن في مطلع الألفية الثالثة، نهلّل ونصِف بعض الخطوات بسرعة الحلزون في طريق التحسين بالإنجازات الكبرى، لتكون جنبا إلى جنب مع مشروع (الطريق السيار شرق-غرب)، فماذا يعني أن يتصدر جواز السفر البيومتري عناوين نشرات الأخبار ويحظى بتغطية إعلامية شبيهة بتغطية الدول الأخرى حين تظفر بشرف استضافة الألعاب الأولمبية أو كأس العالم؟ ومع ذلك يكون المواطن في بلده غريبا ينهك كل طاقاته في سبيل تكوين ملف يرفض في الأخير لأتفه الأسباب!
ومن المضحكات المبكيات أن حدثني صديق يوما عندما كان في دائرة حكومية وعاش حادثة غريبة على المباشر، رجل في مقتبل العمل يتقدم من مكتب إيداع ملف معين، إلا أن الموظفة تخبره أنه عليه طلب موعد مسبق بالهاتف لإتمام تلك المعاملة، فطلب منها أن تحجز له الموعد دون اتصاله بالهاتف مادام حاضرا، لكنها اعتذرت وقالت له هذه وسيلتنا الوحيدة، فما كان من الرجل إلا أن طلب منها الرقم وحمل هاتفه النقال ليتصل، فسلمت له الرقم وهي تنظر إليه حائرة، قال لها وهاتف المكتب يرن أمامهما: ردي عليّ لأحجز الموعد! وهنا جلبت -ورقة وقلما!- وطلبت منه إيفاءها بمعلوماته لتهم بتدوينها في سجل المواعيد دون هاتف!!
لا أريد تناول هذه المواضيع المثبطة باستمرار، إنما ظروف الحياة تجرني إليها جرا، فحقا معاناة الأوراق التي لا تنتهي تجعل من الشاب كهلا ومن الكهل عجوزا، حتى كدنا عندما ننهي معاملة ما بنجاح نقيم وليمة شكر نجمع فيها الأحباب، ناصحين إياهم بالصبر ثم الصبر، وعدم الدخول في معترك استخراج أي ملف إداري إلا بعد التسلح بزاد وافر من الرزانة والحكمة، فالعبرة بالخواتيم ولا ينال العسل من يخاف اللسع، ولا يأكل التمر من لا يقوى على الإبر!
في الأخير أقول لصديق من دولة أخرى تذمر تذمرا شديدا ذات مرة عبر حسابه في تويتر عن انتظاره لساعتين كاملتين لتخليص معاملته التي تدوم عندنا هنا لشهور عدة: لو علمت حالنا لأشفقت وقبّلت يد من حررك في ساعتين فقط! مع ذلك نبقى نحلم ونحلم بجزائر إلكترونية، وهي حلم كل مواطن!
على الجانب:
أجدد دعوتي لك في التوصيت للمدونة في مسابقتين دعما لها شكر الله سعيك:
مقال طويلة لكنه انتهى
ومعاناة طويلة لكنها لن تنتهي
إن كان للعمر بقية ..
ستكتب مقالا آخر وقد عمرت طويلا
تذكرني فيه
و يبقى الحلم ما دامت الحياة.
شكرا لك أخي جابر على هاته التدوينة التي شخصت فيها داءا عضالا يتألم منه كل جزائري يعيش في جزائر العزة والكرامة… فمايقلقني هو أن كل ماذكرت يعلمه كل إنسان يعيش على هاته التربة الطاهرة ولا يحرك ساكنا إلا القلة من القليل… وما يزعجني هو أن يستسلم الكثير من أصحاب المبادئ ومن يتحدثون عن الرجولة والشهامة وأخواتها من الرضاعة الذين زلو وأزلو وأخشى أن يزولو لما روُجوا له من بضاعة وأي بضاعة …
لا أطيل عليك أخي وسأفيدك بخبرتي في هذا اليوم إذ أني عانيت الأمرين -ككثير من ابناء وطني- من أجل شراء بعض اليورووات الخضراوات والزرقاوات من أحد البنوك… وكالعادة توقعت أن أعامل معاملة المواطن – مع إحترامي لكل المواطنين- فأخذت بنصيحة صاحبي الدكتور الذي أسميه -الدكتور فور (Fort)-لما يأتيني به من نصائح قيمة للتأقلم مع “ريتم “عزة الجزائري وكرامته.فبدلة من النوع الراقي وابتسامة ثم نضرة حادة آتت أكلها ضعفين بعدما حيل بيني وبين وريقات بني يورو …
آسف على زمان أصبح فيه الحق مزيٌة فالذنب ليس ذنبي فدولة شعبي هي من أباحت وروجت لباب باطنه فيه الرحمة وسمته “جزائر العزة والكرامة” ولكن للأسف هو باب من قبله العذاب أسميته” جزائر الذل والمهانة”.
سجل أخي إعجابي بمدونتك وإحترامي لشخصك.
أخوك
1/سلام خويا 2/نحيك لقدرت تعبر و تحكي على هذا الموضوع لقتلنا بزاف 3/انا وحدة مقدرتش نكتب على هدا ….علاه bas que فقدنا الثقة في كل شي ولا كل شي نفوتو فيه و خلاص *تموت ترياح*كيما يقولوا.4/بعتلى الجديد tudjor…
تدوينة رائعة أخي جابر
حقا صارت المعاملات والأوراق الادارية كابوسا نحاول تجنبه ماستطعنا ولكنا لا محالة يوما وراء ” القيشيات” واقف و ربما واقف و مهان
لا تزال عقلية الادارة الجزائرية وفية لمبدئها القاضي بعدم تقديم التسهيلات حتى لا تطالب بتسهيلات أخرى
لربما سيأتي جيل من الاداريين يخفف من وطأة المعاناة لكني أصدق القول أني لا أظنه قريبا و طريق التغيير يبدأ بالذهنيات قبل الرقميات كما أسلفت القول
تفاءلوا بالخير تجدوه. بالتوفيق إن شاء الله في أرابيسك.
بالعفل إنها جزائر الغد
إننا بصراحة نتألم من هذا الداء .. نريد جزائر قوية بعقليات جديدة متفتحة وراقية
نريد الثقافة وحب العلم وإتقان العمل والجد ..
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
لا تتعجب أخي جابر من هذه الوقائع اليومية داخل أروقة المصالح العمومية ومن هذه الظروف المزرية ، فتخيل في بلديتي وضع شباك لفائدة الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة ولكن ذالك الشباك مغلق طول العام والغريب أيضا وضع كرسي الجلوس أمامه ليصطف فيه طوابر المواطنين، بمعنى الشباك غلق نهائيا !! وكم من مرة أدخل البلدية لإستخراج الوثائق أصطف بين حشد من الناس وأمام شباك بعلو المتر أو المتر ونصف !!! …. والسؤال المطروح ماجدوى من وضع ذالك الشباك وهو لا يستفيد منه أصحابه ؟؟؟ ولكم التعليق !!
السلام
شر البلية مايضحك يا أخي الكريم فنحن في بلد القارة نعيش التناقض والإرتجال في كل شيئ كأن عقول الجزائريين جمدت وحنطت ولم يبق منها إلا الناطحة والمتردية ….. لقد ضحكت وبكيت في آن واحد على بلدي
شكرا لك لقد أيقضت المواجع