زيارة المتاحف والوقوف على آثار الأمم السابقة تعد هواية محبوبة لدى الكثير من الناس، وتعتبر مزارا أكيدا لصنف هام من السياح، والدول التي فهمت المغزى جيدا قد أولت لهذه المتاحف قيمة ووزنا خاصا لما له من أثر ووقع عند من زارها، كيف لا وهي الذاكرة الحية التي تخبر عن الماضي وتحكي قصص البطولات التي خاضها الأجداد، والأمجاد التي بناها السلف.

من بين مزاراتي في رحلتي الأخيرة إلى تركيا والتي كانت برفقة والدي الكريم حفظه الله وصديق عزيز، كان متحف “بانوراما” العجيب من بين ما نُصحنا مرارا بعدم تفويت زيارته، حتى تساءلت عن سبب كل هذا الإلحاح عليه وتملّكني نوع من الفضول لأجله، ولكن سرعان ما أردكت صواب من ينصح به، فالمتحف فعلا تحفة نادرة، وقفت فيه على الكثير من الملاحظ.

برمجنا للزيارة صباحا بما أن المتاحف تتطلب المشي كثيرا على الأقدام، ورغم بعد المسافة إليه إلا أن سهولة الوصول إلى المعالم السياحية في اسطنبول يجعل الرحلة إلى أي معلم منها سياحة بحد ذاتها، فكانت البداية بالحافلة ثم العبارة البحرية (ويمكن بالميترو عبر مارماراي) من الجانب الأسيوي إلى الأوروبي، ثم مشيا على الأقدام قليلا، ثم إلى الترامواي، وصولا إلى متحف بانوراما مباشرة، وهنا أجدني أحيي وأكبر فيمن جعل قطع المسافات الطويلة يتم بهذه السهولة، وكأني بهذا مقيم في تركيا من سنوات.

في الطريق إلى المتحف شدتني المساحات الخضراء الطبيعية والأزهار مختلفة الألوان والأشكال، مهيأة حواليه بإتقان يسر الناظرين، يشد الناظر من بعيد بقايا من سور كبير جدا يحيط بإسطنبول، في مشهد يمزج التاريخ بالحاضر، ويحكي قصة أمجاد صنعها أوائل لم يخذلهم خلفهم فواصلوا مسيرة التشييد والبناء بحق لا مجرد ادعاء وكلام.

في مدخل المتحف صفوف من تلاميذ المدارس من مستوى الروضة والابتدائي متشوقون لدخول عالم “بانوراما” الذي يغنيهم عن مئات الدروس في فصولهم الدراسية، فهم سيعيشون تجربة فريدة تجمع التعليم والترفيه وهذه من أقوى وسائل التعليم في عصرنا الحالي، وفي كل مشهد مماثل أبكي على حالي وحال تلاميذنا فهم أحق بأفضل مما يعيشون ويلاقون بكل تأكيد.

إجراءات الدخول سريعة وبسيطة تتطلب كالعادة مبلغا معينا لقطع التذكرة، فالمتاحف كما نعلم في تركيا وفي كل بلد يفهم جيدا في الاستثمار السياحي مكان لتخليد مآثر السابقين، وفرصة لدر الملايين ممن يودّ زيارة تلك المعالم، وهو أمر منطقي جدا نظرا لما تتطلبه تلك المرافق من أعمال صيانة ومتابعة من جهة، ولكونها فرصة تجارية مشروعة تساهم في الاقتصاد الوطني، الشاهد من كل هذا أنك تدفع مالا وترى نظيره أضعافا مضاعفة ماديا ومعنويا، وربما تدفع مبلغا رمزيا في مكان آخر ممتعظا مستنكرا لأنك لم تجد أدنى مؤشر لمقابله، فالعبرة بالأثر والصدى، لا بالقيمة النقدية المدفوعة.

في المتحف تتوفر سماعات إلكترونية متعددة اللغات من بينها اللغة العربية، إذ تجد في كل لوحة من لوحاته رقما تكتبه في السماعة ليبدأ قارئ آلي بشرح تلك اللوحة الفنية التي تمثل حقبة أو مرحلة زمنية من الدولة العثمانية والسلطان القائد محمد الفاتح في مجملها، وشخصيا استفدت كثيرا واستوعبت أكثر، فإحدى عيوني كانت في تلك اللوحات والأخرى تراقب التنظيم والشكل العام للمتحف، خاصة ذلك المشهد الرائع لأطفال صغار يحملون دفاتر وآلات تصوير لا يفوتون أي صغيرة أو كبيرة إلا أحصوها، وهكذا كل ما طال بي الزمن هناك كلما زاد احترامي وتقديري لمن هو فعلا يعمل ويجتهد.

من المحطات الرائعة في “بانوراما” تلك القبة ثلاثية الأبعاد التي تجعل من فيها يعيش محاكاة شبه واقعية لفتح اسطنبول، وحسب التعريف الذي ورد فإن هذا القبة من بين ثلاث مثلها في العالم كله، قد رسمها بدقة ثمانية رسامين، بالإضافة للأصوات المتداخلة التي تجعلك تعيش لحظة الحرب وتسمع ما كان يسمع من عاشها، من صهيل الخيول وصرير السيوف، وأصوات المنجنيق، والنداءات والشعارات والألحان والموسيقى الحماسية التي تعزف أوتارها فرق خاصة في الجيش، حقا هي لحظة مشوقة بامتياز، تضع الإنسان المتأمل في غفوة وحلم جميل، يتحول إلى جرعة من الفخر والعزة التي كان المسلمون عليها حينها، كما تصبح حسرة وأسفا مباشرة حين الخروج من تلك الحالة الذهنية العالية.

بأمثال هذه المتاحف ينشأ جيل الفاتح مدركا لمهامه، معتبرا لتضحيات من سبقه، لا بمسلسلات فارغة وأخرى تلفّق الحقائق وتختزل الدولة العثمانية بعظمتها في مغامرات سلطان مع حريمه وجواريه، فتبليغ التاريخ الحقيقي معركة من المعارك التي تدار رحاها في عقر الديار عبر العالم، والفوز فيها لا يكون بالجدال والبكاء والعويل إنما بالعمل والحكمة والفعالية، فهل نحن مدركون لهذا؟