زيارة دولة مثل ألمانيا هي حلم خاص لمن كانت تشكل له مصدر إلهام مثلي، فقد كتب الله أن تكون آخر محطة من محطات الرحلة الطيبة، وما أروعه وأجمله من ختام، رغم الساعات القليلة التي قضيناها في مدينتي شتوتغارت وفرانكفورت، مرورا واستمتاعا بالجمال الطبيعي البافاري.

كان الدخول للحدود الألمانية انطلاقا من زيوريخ السويسرية ليلا، وهذه المرة أيضا اخترنا الدروب الريفية بعيدا عن الطرق السيارة السريعة رغم جودتها ومعايير إنجازها الراقية جدا، وكم في الطبيعة الريفية من جمال وأناقة عذريين بريئين، ففي كل قرية نمر عليها تكاد تلمس قصة ترويها عن تاريخها المتضارب المتناقض عبر السنين، وفي كل مرة يسرح خيالي بعيدا بالمقارنات بين واقع بلدتي المهتز أمنيا، المتخلف علاقاتيا، إلا وأجدني أغبط من يسكن تلك القرى الهادئة التي تجمع في طياتها كل معاني الحضارة والإنسانية والرقي، ثم سرعان ما أستحضر ماضي تلك القرى في الحروب، فأتمثل أمام ناظري الآية الكريمة “وتلك الأيام نداولها بين الناس” فسبحان من جعل الأسفار مدارس للاعتبار والادكار.

بعد منتصف الليل كنا قد سرنا مرحلة معتبرة داخل ألمانيا، وعندما قهرنا التعب دخلنا محطة استراحة وآثرنا المبيت هناك إلى الصباح، فوجدنا هناك كل وسائل الراحة لصلاة الصبح، وكذا الإفطار، فاستعدنا نشاطنا وواصلنا الطريق في مطلع النهار قاصدين مدينة شتوتغارت، فكانت الوجهة في مستوى تطلعاتنا، إذ وقفنا على مدينة تكسوها الخضرة مع رذاذ أمطار خفيفة فاكتمل مشهد “الجو الأوروبي” الذي كثيرا ما سمعنا عنه، ووصفت به بعض الأيام واللحظات في أوطاننا.

شتوتغارت مدينة منشرحة واسعة فسيحة في طرقها ومبانيها، مثل قاعات عرض السيارات الألمانية الفخمة المبدعة في ديكوراتها، علما أن الإنسان الألماني مفتخر بصناعة بلاده المحلية المتقنة في مختلف مجالاتها، مما يجعل زائر المدن الألمانية يلمس بعينيه مفهوم التخطيط والترتيب بطريقة علمية تخدم المقيم فيها والزائر على حد سواء، خاصة ذلك الاهتمام الواضح بالصيانة والمتابعة الحثيثة لمرافق المدينة ووسائلها كحق مكفول لمن يستغلها، فالنظام والضبط درسان صامتان قائمان بذاتهما يجعلان الإنسان المتأمّل ينظر ويعيد النظر مسقطا تلك المعاني على نفسه بداية ليتحرك بها نحو الفعل الإيجابي لا مجرد التمتع بما كان مفقودا عنده سابقا وتكديس المعلومات ليجدها لحظة الوصف يتباهى بها دون أن يمتثلها واقعا وفعلا.

بعدها كانت الوجهة إلى فرانكفورت، العاصمة الاقتصادية لألمانيا، واختيار هذه الوجهة كان إجباريا كونها تحتضن المطار الذي ننطلق منه نحو الجزائر، وبما أن اليوم كان عطلة آخر الأسبوع فقد خفّت الحركة في المدينة نوعا ما، حتى أن مراكز التسوّق كانت في إجازة أيضا وهذه مفارقة عجيبة لم نألفها كون تلك المراكز فيما عهدنا منها أنها تنشط في عطلات الناس وإجازاتهم، لكن يبدو أن الحال في ألمانيا غير حالنا، ولا أدري حقيقة الحكمة من ذلك.

من الطرائف أيضا أو لنقل المميزات التي تمتاز بها ألمانيا كثقافة وعادة عند شعبها نظرتهم للبيئة واحترامهم الشديد لها، فقد روى لي أحد المقيمين فيها، أنه تفاجأ في أولى أيامه هناك حينما قصد محلا تجاريا لشراء بعض الأغراض وحينما أتم الاختيار ودفع ثمن ما اشتراه وجد البائع يسأله إن كان لديه كيس أو قفة ليضع فيها أغراضه، فاستغرب لعدم وجود أكياس كهدية من المتجر كما ألف في مدينته، حتى ذهب بتفكيره بعيدا وفسّر الأمر على كونه بخلا وقلة حفاوة من التاجر، لكنه بعد ذلك اكتشف أن الشعب الألماني حريص على نظافة البيئة ويوصى الستهلك بحمل قفته أو كيسه معه، وإن حدث وطلبه من المتجر فإن التاجر سينصحه ويوصيه بالاحتفاظ بها وعدم رميها، فلا أدري إن كانت الظاهرة تنطبق على ألمانيا كلها أم تنحصر في بعض المناطق فقط، وأيا كان الأمر ففي رأيي هي عادة جميلة وخلق طيب.

دولة كألمانيا لا يمكن وصفها والإحاطة بها في زيارة يوم أو يومين، فهي في تنوعها وشساعتها بيئة خصبة ولادة للعبر والدروس والتجارب الراقية في التعامل مع الإنسان واحترام كرامته كإنسان دون اعتبار للونه وجنسه وعرقه، فأملي أن تتكرر الزيارة وتطول لأيام وشهور، وما أحوجنا للتعلم والتأسي.

في المساء كانت الوجهة للمطار مغادرين إلى الجزائر، والمطار نفسه بحيويته ونشاطه يجعل زائره في لحظات تأمل وبحث مستمر عن أسرار وأسباب ذلك النظام والانضباط، فالناس فيه بالملايين كأسراب النحل لكل وجهة هو موليها.

في المطار عادة ما يحدث التحول والتأقلم لاستقبال البيئة المعتادة والعودة لما كان عليه الإنسان قبل رحلته، لأنه بعد ساعات سيجد نفسه في واقع أمره منهيا حلما استمر لأيام معدودات…