بينما كنت أتصفّح الفضاء الأزرق وقعت عيناي على منشور أثار بعض الجدل حول جدوى اعتبار الفيسبوك مرجعا من مراجع المعرفة، وكغالبية النقاشات هناك وجدت استقطابا وطرحا لوجهتي نظر متباينتين فيما الصوت الثالث كان خافتا، فلم يجد صداه بين فوضى الإعجابات المتهاطلة على أنصار الفكرة أو معارضيها.

وبما أن مشكلة الـ “مع” و”ضد” نفسها تحتاج لبسط أكثر وتركيز، إلا أنها ليست من حديثنا هذه المرة، إنما أعود لجوهر القضية التي أثير حولها النقاش، لأجدني أنأى بنفسي لمدونتي إذ أجد فيها الراحة والجو الخصب لأدلي برأيي بعيدا عن التشنج والتسرّع، ولأترك وجهة نظري كمادة مفتوحة للتداول في أي وقت، ولا أكون رهين المنشورات والتحديثات التي يجرّها خط الزمن في الفيسبوك لتدخل الأرشيف سريعا.

فهل يمكن اعتبار الفيسبوك مرجعا للمعرفة كما هو الأمر للأخبار؟ بل هل يعتبر الفيسبوك أصلا مصدرا مثاليا لمتابعة ما يجري من حولنا متابعة واعية تؤدي بنا لممارسات وتفاعل إيجابي؟ ما مدى تأثير ما نطّلع عليه يوميا في الفيسبوك على وعينا ولا وعينا؟

بداية ماذا لو نستعير صورة ذهنية لمقاربتها بما أودّ الوصول إليه؟ وهي صورة الزبد، فالفيسبوك من خلال الممارسة والتحليل لعدد معتبر من المنشورات والتعليقات المرافقة لها، زيادة على الحوارات والنقاشات الناتجة عنها خارج نطاق العالم الافتراضي، أتمثّله كالزّبد، الذي يحكي مظهره عن خلاف ما يخفيه، وهذا بناء على عدة إسقاطات أذكر من بينها:

  • قصر حياة الزبد تشبه تماما قصر حياة المنشورات والمعلومات وحتى الأخبار الواردة في صفحات العالم الأزرق.
  • يتكاثف ويتشكّل الزبد على مستوى الشاطئ ويغطّي بحجمه الصورة الشاملة للحقيقة في أعماق البحر والمحيط، حتى يخيّل للمتلقّي أنه ذلك هو أصل القضية وجوهرها، فيما يذهب الزبد في الأخير جُفاء ولا يترك خلفه أي أثر، إلا المزيد من الأوقات والجهود الضائعة في اصصياده ومحاولة الاستفادة من السراب.
  • يرتبط الزبد بمفهوم الفقاعة، فالكثير مما يثار حوله النقاش والاهتمام في الفيسبوك لا يعدو أن يكون الناتج بعده سوى فقاعات سرعان ما تنفجر عند أول عقبة، غير مخلفّة جراء ذلك الانفجار أي أثر، فلا نلمس منها الفعالية المنشودة، بل تحسّرا وأسفا على علاقات مصدّعة، وأوقات ضائعة، كوننا لم نكن في مستوى معالجة أصل القضايا وإنما استغراق في تفاصيل وأعراض فقط.
  • معلومات الفيسبوك من نوعية الوجبات السريعة لا تستقرّ في الذهن عميقا لعدم امتلاكها العمق المطلوب من جهة، ولكون الحصول عليها قد جاء دون عناء البحث الجاد الذي يرسّخ المعلومة ويركّزها.

بعد هذا، هل الحل في إلغاء التقنية بمجملها؟ لا طبعا، إنما المطلوب هو الوعي بدورها وإدراك ما قد نستفيده منها، وهو كثير، فما الذي يمكننا أن نستفيد منها ياترى؟

يمكن أن نعتبر الفيسبوك نقطة انطلاق نحو البحث حينما تعترضنا فيه الأسئلة وتلاحقنا القضايا التي تحتاج للتفسير والإيضاح، وبعدها كذلك يمكن اعتبار الفيسبوك نقطة وصول لبثّ الومضات السريعة المؤدية لما توصّلنا إليه دالّين على المراجع والمصادر، لا أن يكون هو المصدر، ومن هنا يمكن الحديث عن منفعة محقّقة باعتماد التقنية وسيطا ووسيلة لبلوغ أهداف أكثر دقّة.

“حلّ التليفزيون محلّ الأدب والتفكير، وبالتالي استطاع أن يقلص النشاط الفكري، إنه يقدّم حلولا جاهزة لجميع مشكلات الحياة” (*)

لو كان المفكر حيا إلى اليوم لأضاف الفيسبوك ومشتقاته… نعم هي حلول لكن أية حلول؟

لنترك الفيسبوك في إطاره الترفيهي، ولا نحمّله أكثر مما يتحمّل، ولكن علينا أن ندرك أن حرب الوعي تركّز وتراهن حاليا على فترات الراحة والاسترخاء للإنسان لحقنه بالمزيد من الأفكار التي يستلذها ولو عارضت منطلقاته ومآلاته، وما التلفزيون والفيسبوك إلا منابر وساحات للقتال الفعّال بهدوء دون قطرة دم واحدة، وكم من فكرة هضمنا مثل قطعة الحلوى التي تناولنا وأبناؤنا مع كأس الشاي أو القهوة في عقر ديارنا ونحن نشاهد رسوما متحركة أو برنامجا تلفزيونيا آخر.

قال الله تعالى: “فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض”(**) ولعلّ ما تم ذكره يوافق الآية وينحى منحاها، فلنختر لأنفسنا ما ينفعنا.

في الأخير يسعدني أن أترك ورشة البحث مفتوحة وأطلب منكم المزيد من الإثراء لما جاء في المقالة، وأملي كبير بإضافاتكم…

———————————–

(*) المفكر الراحل على عزت بيجوفيتش من كتاب ” الإسلام بين الشرق والغرب.

(**) الآية 17، سورة الرعد.