الشعور بالتباين واختلاف البيئة يكون على أشدّه بعد كل عودة من السفر لخارج الوطن، فالحنين يظهر جليا لما فُقد هناك، ومن جانب آخر يعمل العقل أحيانا بمنطق ما ألِف هناك لما يتعقّبه هنا، وهنا تحدث الصدمات، ويتم التذكير كل مرة بأنني قد عدت، وعليّ أن ألبس لكل حال لبوسها، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا…

  • لقراءة هذه الحلقة عليك أولا أن تعود لسابقتها، لتختصر على نفسك الطريق كثيرا فيما يمكن أن تستفيد من هذه الحلقة إن شاء الله…

لابد من الإشارة إلى أن الوقت ثمين جدا، والحِمل ثقيل، كما أن الأهداف الكبيرة تستدعي طموحات أكبر، والتي لا تحققها بعد توفيق الله سبحانه وتعالى إلا التضحيات الكبرى، ومن التضحية كسر الحواجز النفسية والجدران الوهمية، لعل الأسفار للاطلاع والاستلهام من أسباب توسيع الآفاق والمدارك، وتغذية العقول بما يفتح لها مما أغلق وأوصد أمامها، وأول عقبة في طريق الإنسان هو ذلك الإنسان نفسه بذهنيته وطبيعته.

استوقفتني كالعادة بعض اللمحات الخاطفة في زمنها، العميقة الأثر فيما أحدثت فيّ من مفارقات، فالعقل مدجج بالأسئلة التي تتزاحم في طابور تنتظر الجواب عنها، باختلاف أحجامها، وبغض النظر عن أوزانها، وزمن انبعاثها، تلك الأسئلة تجد أحيانا مرادها من الأجوبة، وفي مناسبات أخرى قد لا أجد ما يشفي غليلي منها… فأنطلق مرة أخرى متأملا في رحلة بحث أخرى وهكذا…

  • الحديث عن تركيا الحديثة، وتركيا الحضارة، لا يجب أن يصرف أذهاننا لبذخ عيش سكانها، وحصولهم على أرقى المكتسبات وأفخم الظروف، فهذا غير منطقي أساسا، وليس من الواقع ابتداء، الفقر موجود، ومظاهر الطبقات الاجتماعية متفشّ كما المجتمعات الإنسانية، لكن ما الذي شد ناظري في إحدى المرات؟

نسوة أو رجال، أطفال أو بنات، يفترشون لحافا ويعرضون سلعا للبيع من صنع أيديهم، هي ملابس أو ملحقات لها، بإتقان جميل، وشكل عريق، ترى في أعينهم نظرة التواضع، والانكسار من قسوة الحياة، استحضرت حينها قصة المفكر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- مع والدته (+) ذات يوم، كما جال في خاطري ما قرأت يوما عن طبّاخة العجين (++) وما رافق الموقف من خواطر، أو بائعة المناديل أو صاحب طاولة الخضار أو صينية الشاي الأحمر أو مشروب السحلب أو الحلوى العثمانية… الذين كان من بينهم من يقتطعون من أرباحهم على -شحّها وقلّتها- نصيبا لتغطية نفقة منحة أو أكثر لطالب علم في إحدى مدارس أو جامعات تركيا في إطار مشروع الخدمة.

وفي جانب آخر، كان التأمل ملهما في أصحاب العربات، ورقيّ ذوقهم الفنّي في تجهيزها، لبيع الخبر الطازج المحلي الصنع، أو غيره من المأكولات التركية الخاصة، أو التذكارات، إذ يحوم حولهم الناس فضولا لا جوعا، لا سؤال هناك عن السعر بل تسابق للظفر بشيء مما فيها، بما قد استثمروا في عرباتهم الصغيرة من النظافة وحسن الاستقبال وجمالية المظهر، وإن طلبت صورة تذكارية فذلك مما يسرهم ويزيدهم حماسة دون أية عقدة، وكل ذلك سلوك ذاتي نابع من ثقافة متجذرة أولا، وكذا براعة في التعامل مع السياحة، والاستفادة مما تدرّ وبسخاء.

  • من أهم اللحظات الخالدة في ذهني صلاة الجمعة في جامع السلطان أحمد (الجامع الأزرق)، فرغم برودة الجو خارج المسجد إلا أن الأجواء داخله كانت في أوج حرارتها روحيا، صلاة جمعة تستحضر فيها معاني العزة والتمكين اللذين كانت عليهما الدولة الإسلامية العثمانية في أرقى تحكمها وبسط نفوذها على رقعة مهمة من العالم، هذا تاريخيا، أما حاضرا فالجموع التي ملأت المسجد عن آخره مظهر آخر من عظمة الخالق عز وجل، وسماحة الإسلام، ومنهج حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، بشر من مختلف الأجناس من غرب الكرة الأرضية لأقصى شرقها، تجدهم هناك، حتى يخيل إليك أنك في مؤتمر علمي، وأي جو علمي أرقى من الصلاة؟! تجمعهم “لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم”…

حقيقة شعرت حينها ولأول مرة في حياتي بكوني صليت أكثر من مجرد صلاة تسبقها خطبة دعوية، بعدما صليتها في مسجد حيّنا لبرهة من الزمن، ثم في مساجد مدينتنا، ثم بدرجة أعلى في ولايات أخرى، ليصل الدور لجامع عالمي، عالمي لا لأنها في دولة أخرى، وإنما لكون الخطيب أعجميا وأغلب المصلين لا يفقهون من العربية شيئا، فالخطبة لم أفهم منها إلا حين الاستشهاد بالآيات القرآنية والاستئناس بالأحاديث النبوية، فيما أعناق المصلين تشرئب لفهم تلك المسألة أو تلك، متفاعلين معها، ومركّزين، تغمرهم حرقة الدين الذي لم يكن وصوله إليهم صدفة أو باليسر الذي يمكن أن نتخيل، فأي أمانة للدين وصلتنا بشكل “مجاني” ونحن نتخاذل في خدمته، ورفع رايته؟ احتكرنا الصواب لأنفسنا طويلا، ورمينا من لا يوافق هوانا بكل ما يطيق وما لا يطيق، أغلقنا أبواب الخير بإحكام عليهم؟! أسأل الله اللطف بنا…

  • ملحظ مررت به أيضا قلب عندي بعض الموازين، كما فكك لدي وأعاد تركيب بعض المفاهيم، وهو أني وقفت على حقيقة أن الإنسان التركي معتز بمنتج بلاده بشكل رهيب، ليس هذا فقط، إنما لو خيرته بين ما يستورد وما هو محلي لاختار المحليّ دون تردد، مع عدم إنكاره لما هو من الخارج، لكنه في درجة ثانية بدون أي إشكال، إلا ما لم يتوفر هناك فذاك حديث آخر.

هذه الثقافة ليست متجذرة من القديم، إنما هي سياسة اتبعتها الدولة، على أكثر من صعيد، فبدأتها تربويا وإعلاميا واقتصاديا… أما تربويا فقد غرست حب العمل والإتقان في أبنائها، وصناعيا يسرت السبل لإنشاء المصانع واعتمدت على الانفتاح على التقنية الخارجية على أن تكون مرحلية، بتوظيف عمالتها من المواطنين، إلى أن يكتسبوا مقاليد الأمور ويصبحون في مرتبة العقول المدبرة، ومن جانب آخر تم تقييد الاستيراد، وضع العراقيل أمامه فيما يخدم مصلحة الإنتاج المحلي، دون المساس بالجودة أو التنازل فيها.

مع جانب آخر جد مهم هو ربط الجامعة بأبجاثها ومخابرها مباشرة بأصحاب القرار في كل المجالات، مما جعلها دولة “حلول” بامتياز، فالإشكال يدخل المختبر، ويخرج من الجهة الأخرى حلا وهكذا… الحال متواصلة مع عديد المشاكل التي تتخبط فيها تركيا، إلا أن المهم هو ثقة المواطن في كونها ستجد طريقا للحل بإذن الله.

أكتفي بهذا القدر من الخواطر هذه المرة، أرجو من كل قارئ لها تحليلها لا لينبهر فقط، أو يحتقر، ولا ليقارن وييأس أو يجحف، إنما لينصف ويثري، ويفعّل، ويبادر… وإلى الحلقة المقبلة.

(+) هي قصة وقعت للمفكر عبد الوهاب المسيري ووالدته أسردها كما جاءت: جاءت لباب منزلنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلة بها بعض الأشياء للبيع، فرفضتها بناء على إدراكي أننا لا نحتاج لمثل هذه الأشياء وفوجئت بأن أمي تزجرني، وقامت بشراء السلة من الفتاة بسعر جنيه مصري، برغم أن القيمة الحقيقة للسلة لا تتعدى عشرة قروش. وفيما بعد عرفت أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذي أفلس أو توفى لا أذكر بالضبط، وأن عملية البيع والشراء التي تمت بين أمي والفتاة تمت تحت غطاء تعاقدي ظاهريا، ولكنها في واقع الأمر تمت في إطار تراحمي، إذ إنه تم أعطاء الفتاة صدقة، ووظيفة الغطاء التعاقدي هو أن تحتفظ أمي للفتاة بكرامتها. [الثقافة والمنهج: ص23]

(++) إشارة لمقال د. محمد باباعمي  فاتح القسطنطينية (8): طبَّاخة العجين، وطبَّاخ البنين! المنشور في موقع فييكوس نت، وكتابه من بنات الأسفار.