على ضوء الأحداث المتسارعة الجارية حولنا كشعوب في أوطان تملك بعضا من أمرها، يجد الإنسان نفسه تائها، ففي الصباح يؤيد، ليعود في المساء فينكر ويعارض، ما الذي يجعله يتقلّب داخليا هكذا حتى إن لم يعبّر عن ذلك التقلب بلسانه أو قلمه؟ وما الذي عليه أن يفعل في هذه المواقف؟

إعلاميا نجد أنفسنا ضحايا تائهين كذلك، فتلك قناة تبث الخبر العاجل الفلاني وفق طريقتها وهواها، وتلك أخرى تعالج نفس القضية من زاوية مغايرة مخالفة، إما مقلّلة من شأنها أو مهوّلة، الضحية من كل تلك المشاهد هو المتلقي المسكين، يحسب نفسه عالما بما يجري حوله، لكنه أجهل مما يتصور، يعتقد أمورا اعتقادا جازما، لكن حقيقتها مخالفة تماما لما يتصور، فأصبحنا نعلن آراءنا ونحن متقنين بها أشد اليقين لتظهر الأيام بعد ذلك سذاجتنا وضعف عقولنا في تمييز الأشياء والمواقف حين حدوثها.

من جهة أخرى هناك من أعمت بصائرهم نظرية المؤامرة، وراحوا يرمون كل إنجاز لبني عمومتهم أو إخوانهم في الدين أو اللغة أو الوطن بكونه مزيفا لم يكن لولا تساهل جهة أخرى أو تراخيها عن علم ودراية وتخطيط، ينسبون التخطيط والنجاح والإنجاز لغيرهم دائما، والعجز والصدفة لأنفسهم ومن معهم!

وفئة أخرى تهوى توقع النتائج واستشراف المستقبل دون أية قرينة أو دليل معقول، فإن كان توقعهم صحيحا – وهذا نادر – راحوا يتغنون به في كل مكان وزمان، أما إن كان خائبا بعيدا عن ما اعتقدوه صمتوا عنه ولم يذكروه، والأدهى من ذلك والأمر أن يركبوا الموجة الجديدة ويبدؤوا توقعات أخرى جديدة وهكذا…

علينا انتهاج الوسط، فلا نتفاءل بقوة ولا نتشاءم بيأس، وعلينا التريث في الأحكام كثيرا، سواء على أشخاص أو مؤسسات أو هيئات أو حتى أفكار، ولا نلعب دور الخبراء في كل مرة، حتى وإن ظهر لنا جليا من خلال اعتقاد الأغلبية أن هذا الرأي هو الأصوب، فعلينا التأكد والتيقن قدر الإمكان، فلم تكن الأغلبية يوما دليلا على الحقيقة، لنمسك علينا قليلا ألسنتنا في صفحات الفيسبوك أو التويتر أو غيرها، ولنحتفظ بآرائنا قدر المستطاع إلا ما كان منها طلبا للمشورة والإثراء لمعلوماتنا فهذا أمر جيد مطلوب، أما أن نكتب متهمين أو متوعّدين أو محرّضين فلا فائدة تذكر من ذلك إلا الزيادة في كم الخصومات وفتح أبواب الفتنة بينهم وبين خصومهم الافتراضيين -الوهمي حتى- مما يوسع من دائرة تلك الخلافات لتصبح أمرا آخر.

أذكر مثلا قضايا الثورات العربية الليبية والسورية واليمنية وغيرها، والمجلس الانتقالي، والمرتزقة وموقف الجزائر والناتو والاحتلال، وقطر والجزيرة وو… إلخ، كلها مواضيع أصبحت مما يمل منها الإنسان، حين يرى ذلك التراشق وتبادل التهم والوعيد بين أطراف القضية التي تملك أسرارها الخاصة بينها لا أحد أدرى بها أو على الأقل غير محيط بالموضوع جيدا، فلنترك القضايا لأصحابها، ولا ننصب أنفسنا خبراء عليهم ندرّ عليهم بتجارب لم يطلبوها، ونتفنن في وصف الأدوية لهم بتشخيص أو بدونه دون تأهيل ولا حتى تكليف.

أمس الجمعة وقع انفجار في المدرسة العسكرية بشرشال، -أترحم على الضحايا وأدعو الله لهم الشهادة – وما هي سوى دقائق على الحدث حتى صدرت التفسيرات من محللي الفيسبوك كالعادة، فظهر خبراء السياسة من الشباب يجزمون أن تنظيم القاعدة هو الفاعل وقد تسنى له ذلك بفضل الحصول على دعم بالسلاح من ليبيا!، وذهب البعض الآخر إلى اتجاه اتهام النظام الجزائري بتدبير التفجيرات لإخافة الشعب من ثورات مزعومة تطبخ هنا وهناك!، كما كانت هناك عدة تفاسير أخرى بتوجهات مختلفة، لا أدري من أين كانت كل تلك المعطيات ليكون أصحابها معتقدون يقينا بصحتها، فربما حتى المخابرات لازالت في مرحلة البحث والتقصي؟

حتى الصحف الوطنية راحت إلى نسج خيوط الجريمة بطرقها الخاصة، فالبطل منها من يحسن حبك سيناريو مثير للقضية بربطه لعدة مؤشرات وعدة قضايا مع بعضها البعض حتى يخرج لنا في الأخير -كالعادة- مسلّمات واستنتاجات لا يرقى لها الشك أبدا!

أنا لا أنكر أي تفسير منها ولا أؤيد كذلك بل أحاول أن أتوقّف لحين جلاء الحقيقة كاملة واضحة، إنما أعيب في طريقة الطرح واستغلال الأحداث واستثمارها لأهداف مسمومة مغرضة، تجعل الباحثين عن الحقيقة بطرق عقلانية بعيدة عن التطرف يتعبون ويعودون خائبين من ظلمات قاتمة كانوا يظنون أنها نور ساطع، ليجدوا في الأخير أن الجهل نور… والعلم ظلام وضلال! أحيانا في مثل هذه القضايا.

يعني أن البحث عن بعض الحقائق يدخلنا في متاهات مظلمة لا نجد لها خلاصا، أما جهلنا بها يجعلنا أكثر ارتياحا، وأقل توتّرا، ففي رأيي لم يفز حاليا إلا من اهتم بأعماله وأموره، دون أن يغفل الاطلاع على المستجدات ومواكبة الأحداث بتجرد وموضوعية دون تعمق أو تحليل، لكون القضية مهمة المتخصص، وكذلك لأنه لم ولن يكون حلا للقضية إن هو أحاط بذلك الموضوع أو غيره.

ما يؤسف أن ينساق بعض الدعاة والشخصيات التي كنا نحسبها لوقت قريب ذات وزن ورصيد علمي وفكري، إلى مستنقع المعلومات المغلوطة، وأذكر على سبيل المثال أن شيخا مشهورا استدُعي كضيف في حصة تلفزيونية للحديث حول قضية عربية معينة فراح يعتمد صورا من الأنترنت معالجة بالفوتوشب كأدلة هجوم دون أن يدري، مما جعل سمعته على المحك، وسقط سبعين خريفا بتصرفه ذاك على الأقل عندي شخصيا، وآخر تبنى إعلان خبر عاجل ساخن عن إسلام اللاعب “ميسي” وراح يحتفل ويستبشر دون مبرر حتى وإن فرضنا أنه أسلم! وشخصيات أخرى انزلقت انزلاقات خطيرة بتصريحات مباشرة منهم تركت مريديهم ومعجبيهم في حيرة من أمرهم!

إذا ألقــاك علمك مـــهاوٍ ***** فليتك ثم ليتك ما علمت

لا أدعو لعدم الاهتمام نهائيا وإنما علينا الحكم بظاهر الأمور والله يتولى السرائر إلى أن يثبت عكس ذلك، ولكل منا عقل وضمير يحكّمهما معا في هذه الظروف دون طغيان أحدهما على الآخر، بهذا في رأيي ستتصلح الكثير من أمورنا والله أعلم، دعاؤنا بالنصرة والتمكين للمظلومين في مشارق الأرض ومغاربها، وبالذل والهوان للظالمين والمعتدين… آمين.