كان السبت 12 جوان 2011م يوما مشهودا في تركيا، وفي العالم الإسلامي ككل، الحدث غطى ولو قليلا على الصورة السوداء التي تغطي المسلمين في هذا الوقت، فلم نعد نرى إنجازات إلا بالمجهر، أردوغان يواصل مسيرة القيادة برجالاته وطاقمه وبعهدة أخرى حاملا هم أمته عن حق، مؤديا دوره بإخلاص.

اخترت هذه المرة أن أعنون مقالتي باللغة التركية احتراما لهذه الأمة التي تعبّر عن أصالتها وعراقتها في كل موقف ومحطة من مشوار نهضتها وتقدمها، فلم يخطئ من سمى شعبها الطيب بالعثمانيين الجدد، وإذ أشاركهم عراقتهم وحفاظهم على هويتهم ولو بطريقة جزئية، فالنموذج التركي مما يدعو للإعجاب ويستحق الدراسة والبحث، لأن فيه من المكنونات والكنوز ما يجعل أمة نائمة في سباتها تنفض ولو قليلا غبار الخمول والخنوع عنها، وتحاول ولو لمرة التغيير من حالها نحو الأفضل.

حدث الفوز في الانتخابات ليس بالأمر الجديد أو الفريد في العالم، إلا أن هناك ما يستحق الذكر والمتابعة وحتى المشاركة في الفرح أو الحزن وفق معطيات معينة وقناعات محددة، فأمريكا التي تجري انتخاباتها الرئاسية كل أربعة أعوام تجذب إليها كل الأنظار من العالم لأسباب من بينها المناظرات العلنية التي يقوم بها المترشحون، وللوعود الكثيرة التي يقطعونها فتعود في كل مرة بالخير على بلدانهم وبالوبال علينا رغم أن العديد منا يصفق لهم ويهلل لما يهللون ويفرح لما يفرحون.

أما تركيا فهي نوع آخر ونموذج مغاير تماما، فالدين يجمعنا أولا، والتاريخ ثانيا، أعداؤنا أعداؤها، وحلفاؤنا حلفاؤها، إلا من اختار لنفسه طريقا مخالفا فذلك شأنه، فالعلمانية فيها مصطلح يراه من يراه مسيئا، ولكن المفكرين ممن نثق فيهم يبينون لنا كل مرة أن الخير كل الخير في ما ينتهجون، لا لشيء سوى لحالتهم المتفردة، فلننظر مسيرتهم من أين بدأت وإلى أين يريدون الوصول بها لنكتشف صحة منهجهم وحكمته وقوته.

فقد سخر الله لها رجلا باسم رجب طيب أردوغان وبالتركية (Recep Tayyip Erdoğan)  بلغ رئاسة حزب العدالة والتنمية بعد عام من بلوغ أشده قبل سبع سنوات، الحزب اعتمد فلسفة خاصة ليملك قلوب شعب تركيا، فطابعه المحافظ دينيا، المعتدل سياسيا غير المعادي صراحة للغرب، ذو الجذور الإسلامية إلا أنه يفضل العمل في ذلك السياق في العمق لا في الظاهر.

وما كان ليحقق الحزب الحاكم حاليا في تركيا كل ذلك النجاح (326 مقعداً من أصل 550 مقعد في البرلمان بنسبة: 50.4% من إجمالي الأصوات) لولا الرضا والإجماع الذي لاقاه من أغلبية الشعب التركي، مع أن النسبة دوما في ازدياد، بفضل النتائج الملموسة للوعود المقدمة، فالأرقام في صالحهم كل مرة، حيث شهدنا ارتفاع قيمة العملة، والدخل القومي والفردي، والإصلاحات المعتمدة في الخدمات مثل الصحة والتربية والتعليم.

أردوغان ومنذ 17 عاما وشعبيته في نماء فقد خاض غمار الانتخابات ثمان مرات تكللت جميعها بالفوز، علما أن الأولى توّجته رئيسا لبلدية اسطنبول عام 1994م، وثلاث منها كرئيس للحكومة وهو على رأس حزب العدالة والتنمية (Adalet ve Kalkınma Partisi)، معلنا هذه المرة أنها المرة الأخيرة ليفسح المجال للشباب، أليس هو شاب بعقلية حكامنا (47 عاما)؟

الحديث في تركيا في الانتخابات التي شارك فيها أردوغان لم تكن عن من يكون الفائز الأول بقدر ما كان الاهتمام منصبّا حول النسبة التي سيحوز عليها، وهل ستؤهله لقيادة الحكومة لوحده دون منازع ولا مشارك وفق الدستور التركي، فقد كاد حزب العدالة والتنمية هذه المرة أن يستحوذ على حق تعديل الدستور دون العودة للمعارضة إلا أنه لم يبلغ نسبة الفوز بثلثي مقاعد البرلمان، وهكذا حاز الرجل قلوب الناس بالعمل لا بالقول، ومبدؤه دائما دعوة أي مسؤول إلى النزول للمواطن البسيط والعيش مثله وقد قال يوما:

“إن الوالي لدينا ينبغي ألا يجلس في سيارته الرسمية، أو في غرفته بمبنى المحافظة يباشر أعماله ورقيا، بل ينبغي أن يرتدي حذاء العمل عند اللزوم، ويمسك بالفأس والكوريك، ويباشر بنفسه الأعمال ويتابعها، إن الوالي ليس بعيدا عن الشعب والمدينة ومشكلاتها، فهو دائما بين الشعب والمواطنين، يتداخل معهم، ويشعر بمشاكلهم، هذه هي صفات الوالي الذي نريد أن نراه في وطننا، أريد من الوالي أن يتفقد بيوت مدينته والقرى التابعة لها، فينظر أي مدخنة فيها لا تنطلق منها أدخنة التدفئة في هذا الشتاء القارص، ومن أجل ذلك عليك أن تتجول بنفسك وتتعسس هذه البيوت. أريد أن يتألم الوالي عندما يرى الطفل يخرج في الصباح البارد، وقد ارتدى حذاء ممزقا لا يقي من برد الطريق، أريد منه أن يتفقد بيوت الشيوخ والعجائز فينال بركة دعائهم، وأن يزور بيوت الفقراء ويقدم لهم السكر والشاي وما يلزمهم من مواد غذائية تعينهم على أعباء الحياة، وإذا لم يستطع إعداد الشاي لهم بنفسه، فليذهب والسيدة حرمه إلى أولئك الفقراء ويعدوا الشاي لهم بأنفسهم، ويشربا معا من الشاي ذاته، إن علينا أن نحطم تلك الأبواب المغلقة بين المواطنين والبيروقراطيين”.

أردوغان وبالطبع من خلفه من رجال خدموا أمتهم ودينهم بدقة وعصرنة وتفتّح أمثال مستشاره الرئيسي سابقا ووزير الخارجية حاليا الدكتور أحمد داوود أوغلو مؤلف كتاب يعتبر من أهم مرجعيات القيادة والسياسة بعنوان: “العمق الاستراتيجي، موقف تركيا ودورها في الساحة الدولية”، والرئيس عبد الله غول، وغيره من رجال تركيا الذين نقلوها -ولا زالوا- من ظلمة التخلف إلى قوة لا يستهان بها اقتصاديا وتربويا وسياسيا، وهذا بفضل سياسات كثيرة وعميقة لا يسمح المجال هنا لذكرها والتفصيل فيها.

ربما يقارن البعض منا تركيا حاليا بما يقال عن الالتزام بالدين فيرى تناقضات صارخة في الواقع، نعم هذا موجود، ولا مبرر له سوى أن عجلة تركيا تتحرك ولم نقل قد وصلت للقمة وبلغت أهدافها، يعني أنه علينا النظر للقضية تاريخيا، أين كانت وأين هي الآن وإلى أين الهدف؟ هنا سنفهم المعادلة ونقرّ بجهود تُبذل بفضل عقول هداها الله للتفكير السديد.

تركيا في مناسبات عدة تلقن لنا دروسا، فهذا موقع رئيس وزرائها أمام رئيس الكيان الصهيوني حين لم يرض الجلوس معه في نفس المقام باعتباره سفاحا يتقل الأبرياء بل وقد أخذته العزة بالإثم، ومكرمة أخرى تحسب لتاريخ تركيا الناصع قضية سفينة مارمارا، وكسر الحصار على غزة.

أدعو الله بكل الخير لأردوغان ومن معه من رجال الإصلاح في تركيا، فما نملك لكم سوى ذلك الدعاء، وذلك أضعف الإيمان، في انتظار أن نحوز الشرف من إنجازات حكامنا يوما ما، إن تبدلت الأرض غير الأرض والسماوات.

فـ “هنيئا لك سيدي أردوغان” مرة أخرى كما جاء في العنوان.

المصادر:

  1. مقال للدكتور مصطفى حميد أوغلو، طبيب وكاتب ـ تركيا: أردوغان لماذا فاز.. ويفوز… وسيفوز أيضاً …؟ منشور في مجلة العصر.
  2. موسوعة ويكيبيديا.